فيلم «سلمى وقمر» للمخرجة عهد كامل ..

دفء بسيط في زمن التحولات .

هناك حكايات لا تبدأ صدفة ولا تنتهي بانفجار درامي، بل تسير في حياة الإنسان كما يسير النسيم بين أيامه دون أن يشعر، تبني داخله شيئًا لا يراه الآخرون، وتغرس فيه ملامح الأمان الأولى، هكذا تولد القصص التي تختزنها الطفولة ولا تغادرها مهما طال الزمن. حين تتابع فيلم “سلمى وقمر” (2024) للمخرجة والكاتبة السعودية عهد كامل (1980) تجد نفسك أمام عمل يتنفس بهدوء، لا يعتمد على صراع مدوٍ أو حبكة معقدة بقدر ما يراهن على رهافة الإحساس، وعلى تلك اللحظات العابرة التي تصنع صورة متكاملة عن الطفولة وحلم الاستقلال، ومع أن الفكرة تبدو بسيطة إلا أن طريقة تقديمها، والأسلوب الإخراجي الحميم، يكسبان الحكاية بعدًا يتجاوز بساطتها نحو الغوص في بنية العلاقات الإنسانية، خصوصًا تلك التي تنشأ بين الغرباء الذين يصبحون، دون ضجيج، جزءًا من نسيج الحياة الداخلية للطفل. يزداد هذا الإحساس عمقًا حين نعلم أن قصة الفيلم – دون الدخول في كثير من التفاصيل - تستند إلى تجربة شخصية حقيقية (في جدة، خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات) عايشتها عهد كامل، إذ رافق الطفلة سائق منذ نعومة أظافرها وحتى بداية شبابها، رجل صار مع الأيام رفيق طفولة ومربٍ خفي، ظل يراقبها وهي تكبر، يحميها من أخطار الطريق، ويُطمئنها بوعد بسيط: أن يعلمها القيادة عندما تكبر، ذلك الوعد الصغير الذي كان يحمل خلفه كل الحنان الأبوي غير المعلن، وكل الرغبة في منحها جناحين للطيران وسط عالم كثير المطبات، غلّفه الفيلم بمشاهد بسيطة ومليئة بالحس الإنساني الصادق. اختارت عهد كامل أن تجعل الشخصيات الأخرى في القصة، كالأب والأم، حاضرين ضمن الخلفية الدرامية دون أن يكون لهما دور محوري؛ فالفيلم لا يروي حكاية عائلة بقدر ما يروي حكاية علاقة نشأت خارج الإطار التقليدي للأسرة، علاقة كان قمر فيها هو الأمان الشخصي لسلمى، الجدار الذي تستند إليه وهي تخطو خطواتها الأولى نحو الاستقلال. “رنا علم الدين” أدت دور أم سلمى، الأم الحاضرة بقلقها وحنانها، التي وإن لم تحتل الشاشة طويلاً، إلا أن ملامحها وانفعالاتها عبرت عن ذلك القلق الأمومي الخفي. بينما جسد “قصي خضر” دور والد سلمى، الرجل الذي منح قمر ثقته دون وجل، وسلمه رعاية ابنته وكأنما رآه امتدادًا لأمانه الشخصي، لذلك رحل سريعًا. أما شخصية سلمى، فقد أدتها “رولا دخيل الله” ببساطة آسرة، استطاعت أن تقدم صورة فتاة على مشارف النضج، تسير بخطوات مترددة وواثقة، تحاول أن تلتقط إشارات العالم حولها دون أن تفقد نقاءها الطفولي، وقد اعتمد أداؤها على التعبير الصامت: نظراتها، وقفتها المرتبكة، وابتسامتها الصغيرة التي تفر من شفتيها دون تصريح، مما جعل حضورها أمام الكاميرا حقيقياً وغير مصطنع. ودور قمر، الذي أداه “مصطفى شحاتة”، كان بمثابة قلب الفيلم، رجل بسيط، يحتضن بعفويته الأبوية علاقة لا تشوبها شائبة، بدا حضوره مزيجًا من الطيبة والحذر، وقد جاء أداؤه طبيعيًا، متخففًا من الأداء المسرحي المبالغ، ليجعل الشخصية تبدو وكأنها مأخوذة من الشارع اليومي دون تصنع. السيناريو جاء بسيطًا ومحمّلًا بكثافة شعورية دقيقة؛ فلم يعتمد على الحوار المكثف بقدر ما اعتمد على التفاصيل اليومية العابرة: لحظات الانتظار أمام بوابة المدرسة، تبادل النظرات الصامتة عند انصراف الزميلات، حركة اليد التي تفتح الباب بهدوء، صوت المحرك الخافت عند السير، والموسيقى التصويرية واكبة المسار وجاءت هامشية بالكاد تسمع، كأنفاس حركية تتردد مع المشهد دون أن تفرض نفسها، كل هذه التفاصيل شكلت شبكة شعورية محكمة أقوى من ألف كلمة منطوقة. عهد كامل رسمت مشاهدها بإيمان بأن الصورة قادرة على حمل المعنى حين تُكتب بصدق، فجاء الإخراج متوازنًا، يبتعد عن الاستعطاف المباشر، وامتدادًا طبيعيًا لفكرة الفيلم، إذ اختارت عهد كامل أن تقدم عملًا يعتمد على الواقعية البصرية، مع لقطات ثابتة في أحيان كثيرة، وحركة كاميرا خفيفة تكاد تتوارى خلف الشخصيات، مع اضاءة غالبيتها في وضح النهار ومتدرجة مع تغيرات ضوء الشمس، لتعكس بساطة القصة وصدقها دون اللجوء إلى بهرجة بصرية لا تليق بهذا النوع من الحكايات، ويترك للمشاهد حرية الشعور بالحزن أو بالامتنان دون ضغط عاطفي مصطنع. على هذا الأساس فاز فيلم “سلمى وقمر” بجائزة النخلة الذهبية لأفضل فيلم روائي طويل في مهرجان أفلام السعودية في نسخته الحادية عشر، تأكيدًا على أن السينما السعودية قادرة على تقديم قصص صغيرة، لكنها مشغولة بإحساس كبير، بعيدًا عن الحاجة للاستعراض أو التصنع. وعند تأمل موضوع الفيلم قد تلوح في الذهن مقارنة عابرة مع فيلم “وجدة” (2012) لهيفاء المنصور، حيث تتشابه الفكرتان في أن كلتيهما تسعيان لتحقيق حلم بسيط في عالم يكبل أحلام البنات بقيود لا مرئية؛ إذ أرادت “وجدة” أن تتعلم قيادة الدراجة، وأرادت “سلمى” أن تتعلم قيادة السيارة، مع أن المقارنة تظل هامشية، لا ترمي إلى تفضيل عمل على آخر، بل تشير إلى أن هذا النمط من الحكايات الصغيرة القادرة على لمس قلب المتلقي أصبح جزءًا مهمًا من تيار السينما السعودية الجديدة. ولعل الرابط الأهم هنا هو أن عهد كامل نفسها كانت قد شاركت بدور تمثيلي في “وجدة” مما يوحي بأن تفاعلها مع تلك التجربة ترك أثرًا خفيًا في وعيها السينمائي، وأشعل بداخلها الرغبة في العودة إلى مساحات الحلم الطفولي بقصة أكثر خصوصية وشخصية. ولا يمكن الحديث عن هذا الفيلم دون الإشارة إلى المسيرة الفنية لعهد كامل، حيث انتقلت إلى نيويورك لدراسة الرسوم المتحركة والإخراج، وهناك حبذت أن تغوص أعمق في التمثيل، فدرست تحت إشراف وليام إسبير، المعروف بمنهجه الذي يؤمن بأن التمثيل الجيد هو ذوبان كامل في اللحظة، وعملت على عدة مشاريع سابقة، ومنها فيلم “البيت” (2008) وفيلم “القندرجي” (2011)، تُظهر في هذا العمل قدرتها الفائقة على التقاط التفاصيل البسيطة وتحويلها إلى قصة عظيمة تحمل دروسًا إنسانية كبيرة. هذا هو أسلوبها، أسلوب يروي قصصًا صغيرة لكنها تمس القلب، وتحمل هذه الخلفية الفنية انعكاسًا واضحًا في طريقة تناولها للقصص الإنسانية البسيطة، فهي تملك حساسية عالية لالتقاط التفاصيل الصغيرة التي قد لا يلتفت لها كثيرون. “سلمى وقمر”، إذن، هو فيلم عن لحظة الطفولة التي تقترب من النضج لكنها لا تزال متمسكة بجمال البراءة، عمل لا يتعجل الوصول إلى الذروة، ولا يسعى إلى إبهارك بل يخاطبك بهمسات الطفولة البعيدة، ولا شك أن السينما السعودية تحتاج إلى مزيد من هذه الأصوات الصادقة، التي تحكي، ببساطة، قصة صغيرة صنعت فرقًا كبيرًا في قلب من عاشها.