قراءة في مجموعة عبد الجليل حافظ القصصية (موت)

نزعةٌ وصفية تستلهم المشهدَ ورؤيةٌ فلسفيّة عِوضاً عن المآزق الفرديّة.

من الواضح أن السرد في كثير من الأعمال القصصيّة الجديدة يتراجع لصالح الوصف ؛ ويحتلّ فيها التأمّل و التحديق في المشهد مكان التتابع والتسارع في الوقائع ؛ في ردّة فعل عكسيّة لما يتميز به إيقاع العصر الذي يمضي مُلتهماً المسافات في سرعة الضوء ؛ وهذا ما تفصح عنه هذه المجموعة بعنوانها مفردة (الموت) وكأنها تكبح جماح السّرد، وتستوقف الزمن وتدعونا إلى التحديق في مفهوم الفناء الذي تؤول إليه المصائر ؛ لم تَعُد القصة القصيرة تلتزم بالمثلث الأرسطي التقليدي لتصاعد الحدث وتنامي القلق من البداية إلى الذروة إلى النهاية، وتذكّرنا بالتطوّر الذي طرأ على الشعر الذي استبدلت فيه قصيدة النثر بالوزن الخاضع لقوانين البحور الخليليّة الإيقاع الداخلي بألوانه المختلفة . في هذه المجموعة ومنذ العتبة الأولى نلحظ هذه الظاهرة بوضوح؛فالعنوان الرئيس (موت) يقودنا إلى التأمل في المصير الذي سيؤول إليه الأحياء ؛ حقيقة لا مراء فيها ؛ وقد اختار أن تكون مفردة نكرة مصدراً صريحاً مطلق الدلالة، مجرّد المعنى تمّحي فيه حدود الزمان و المكان ؛ وتترامى فيه الأمداء و الأصداء ؛ لفتني في هذه المجموعة انعتاقها من قيود التأليف المعتادة ؛ فليس ثمة فهرست ولا قصة محوريّة تحمل عنوان المجموعة و تجمع بين النصوص المعتادة في طول الشريط اللغوي في القصة القصيرة ، و القصة القصيرة جدا التي تُختَزل في جمل لا تزيد في الغالب عن سطرين أو ثلاثة ، و حين حاولت أن أنطلق من نّص محوري في قراءة المجموعة ؛ لم أجد بُدّا من أن أقارب و أُسَدّد فأبدأ بالقصة التي تحمل في عنوانها مفردة الموت (طعم الموت) هذا النص الذي ينهض على السرد الافتراضي إذ نستطيع أن نلخّصه في حدثين رئيسين : موت الوالد والاستغراق في الرسم ؛ وهما في مقاييس السّرد لا يشكلان قصّة بالمفهوم الفنّي ؛ يوازيهما نصٌّ سرديٌّ افتراضيٌّ على القاريء أن يُلمّ شتاته عبر عناصر ثلاثة : تجربة الرسم واستبطان دوافعه والتأمل في مُخرجاته واستقصاء أبعاده الفلسفيّة و استدعاء التجربة الذاتيّة في إشارتها البيوجرافيّة للحدث الأهم في مسيرة الحياة ،و كذلك اللغة المجازيّة واستشراف المستقبل الذي يتعلّق بتخيّل الموت والتعبير الفني عن هذه الحقيقة من حقائق الوجود و الفناء : مشهد تتكامل أركانه يتوزّع بين الاستبطان الداخلي و التحديق الخارجي و التحليق في فضائهما واستشراف الآتي . ماذا في هذا المشهد من خصيصة تتصل بفن القصة القصيرة التي من شأنها الحفاظ على هوية هذا الفن وشعريّته : التوتر التصاعد و التخيل و الإضاءة الختامية ؛ لعلها كذلك. ولعل النص الثاني الذي يشعرنا بتقاطعه مع النص السابق (بوابة الروح) فالموت لا ينال من الروح ؛ بل يحرّرها من قبضة الجسد ؛ وهذ ما أحسب أن الكاتب قد ألمح إليه ؛ ربما عَرَضاً أو جوْهراً ؛ فنحن في هذه القصة أمام مشهد لا يختلف عما سبقه من حيث السمة الوصفيّة الأساس ؛ ولكنها هنا لا تتخلّى عن حركيّة السّرد الذي يتمفصل في حدث الوقوف على السياج الحديدي قرب صخرة الموت ، وما انطوى عليه هذا الفعل من تفاعل بين ثنائية الموت والحياة ،واستطرادات الذاكرة ، واستدعاء الماضي وإيقاع الحركة باتجاه المركب الصغير ، و استشرافات المحيط المكانيّ ثم القفز صوب البوابة المرصودة أسفل الصخرة .. غموضٌ يلف الحدث وعناصره الزمانية و المكانية و يبقيه مشرع الأبواب أمام التأويل ؛ يغلب عليه التأمل و يستجيب لرؤى الحياة و الموت ؛ أما القصة الثالثة التي تتصل بمفهوم الموت فهي (بعث) التي تضم لوحات ثلاث : أولاهما تجسد أيقونة رمزية للموت في بعده المادي و المنوي و الحضاري ؛ فالفيل القاتل رمز ( الوحشية ) وحجة القتل سبب الحب ( التخلف) و التقاليد الظالمة (ثقافة العنف) اللوحة الثانية المقاتل الذي رفض الاستسلام وآثر الموت على الخذلان (قيمة أخلاقية عليا) اختار الكاتب هذه اللوحة تحت عنوان (صوت) مؤشراً على رؤية المجموعة فوضعها على الواجهة الخلفية للغلاف الذي اختار له اللون الأسود (لون الحداد) الذي يناسب العنوان (موت) أما اللوحة الثالثة فقد جمعت بين العقاب و الوفاء في لوحة مزدوجة تجمع بين الجمال (رمز الحياة) و الوفاء و الموت حيث استجاب الفتى لدعوة الحب فكان الموت ؛ رؤيا بالمفهوم الجمالي الفني يتجاوز التحديد و التقرير ، ويستشيم ملامح الانبعاث عبر القيمة الكبرى (الوفاء) فاستثمر الكاتب تقنية تتابع اللوحات وتكامل المشهد . وبقية النصوص روافد تمدُّ الرؤيا الجامعة لمفهوم الموت و البعث الحضور و الغياب ، ثيمة الحزن في النّص المعنون بالناي ، فهي القصة التي لم يغادر فيها الكاتب مربّع الرسم وتصوير المشهد ؛ ولكنه أضاف الصوت ليعبّر عن الحزن المرافق لمفهوم الموت، في إطلالةٍ وصقيّة تجمع بين اليعد البصري و السمعي والسردي ، وثنائية البدء و الانتهاء، وتصبُّ في جدول الفناء الحزين الي يرمز له بمفردة (الناي) التي ترتبط باللحن الشجي . وفي إطار فكرة الموت تأتي قصته المعنونة (حقيقة واحدة) ولكنها هنا تتمحور حول فكرة فلسفيّة يعكف فيها على تشكيل لوحة تاريخيّة تجعله يربط بين حقائق الحياة و الوجود، وتجعله يقترب من فكرة (التناسخ) مشيراً إلى العبارة الشائعة الذائعة (التاريخ يعيد نفسه) من هنا جاء عنوان هذا النص دالّاً على رؤيته الفكرية التي تتلخّص في التماهي بين الحيوات و الشخصيات فالأمير المقتول في اللوحة صورة من الماضي تؤكد سماته الظاهرة فيها الحاضر بكل تضاريسه؛ فقد تماهت قسماته مع ملامح السارد وكان ذلك مُنطلقه في تأمل فكرة التناسخ و الاستعادة . و يفجّر في نهاية القصة السؤال اللُغز حول الاستسلام وعدم المقاومة وفي ذلك تكمن (لحظة التنوير) و أما قصة (مشط الأبنوس) فتدور حول (الموت أيضا) ازدواجية الوجود و العدم (البقاء و الفناء ) رؤية فلسفية لمفهوم الوفاء في اقترانه بالموت و الفناء وحقيقة الوجود و الخلود ، فالموت حقيقة الحقائق والخلود باطل الأباطيل؛ فمهما حاولنا الإمساك بالذكرى فنحن نتحوّل في نهاية المطاف إلى الذكرى ذاتها كما هو الحال في بطلة القصة التي استبقت ذكرى الحبيب عبر المشط الأبونوسي ؛ ولكنها في النهاية آلت إلى المصير ذاته. أماالقصص القصيرة جداً التي تضمّنتها هذه المجموعة ؛ فجاءت في الجزء الثاني منها مُجتمعة ؛ ولكن بعضها جاء في الجزء الأول ، وربما توسّم مؤلفها أنها تتّسق مع ثيمة( الوجود و العدم) مثل قصتي (جاذبية) و (مرتد) الأولى تشير إلى الاغترار بأعراض زائلة، والثانية تومئ إلى القتل تحت غطاء الدين ؛ بين وجودٍ خادع وعَدَمٍ مُسوّغٍ تحت غطاء الدين ؛ وربما كان لأمرٍ آخر ، وقصة ثالثة تونئ إلى ذرائع للوصول إلى المُبتَغى و المراد كما في قصة (حرية) أما ما جاء في الجزء الثاني من ( قصص قصيرة جدا ) فتأتي على نَسَق واحد (جملة من مفصلين أو جملتين ) وعناوينها مصادر (من أسماء المعاني المجردة) تومئ في ومضات سريعة إلى ممارسات أو ظواهر أو قيم أو تقاليد من خلال رؤية انتقاديّة أو فلسفيّة ، آو تُنبيء عن سلوك تشترك في سمتين أساسيتين : (المفارقة و قابلية التأويل) فضلا ًعن الإيجاز السريع و الومضة البارقة في صور أو مشهد أو ملاحظة أو واقعة لها دلالتها ومعناها في صيعة سرديّة وصفيّة خاطفة ، يليها ما يسوّغها أو ما توميء إليه ؛ففي (انكسار) بكاء انتصاراً لجبرِ خاطرٍ ، وفي(غياب) عُريٌ يشير إلى الضياع؛مفارقة بين الحريّة و التيه ؛ وفي ( شبع) المفارقة بين فعلين متناقضين: السعي للإشباع و الوقوع في مأزق الجوع ، وفي (نخوة ) كذلك يتبدّى الفعل الذي تأتي مغبّتُه نقيض ما رمى إليه؛ كما في (نخوة) “ وقفت تسألهم فرموا سيئاتهم في كيسها” النخوة و السقوط ، وكما في خلود ( الحفر للإيقاع، و من ثم والوقوع في الشرك الذي أعده للآخرين ، فهناك مايقرب من خمسين قصة قصيرة جدا تنطوي على (رؤى وآراء ومفارقات وصور ، وحكم ) وقيم ظاهرها إيجابي وباطنها سلبي ، أو على النقيض : الانكسار و الانتصار والرغبة و الدمعة والأمان و الخوف والإخلاص و الخيانة ، كما في قصتي (إلهام) و( لوحة ) وفي مداواة وشرف (القتل علاج) فضلاً عن ذلك فثمة تراكيب تتوخّى صيغة المثل ، لها دلالتها الخاطفة ، كما في قصة (شؤم) “خرست البومة الناعقة حين مات الجميع” هنا المفارقة بين الفعل وردّ الفعل كما في (دليل ) فتح الكتاب ليستدل به فقطعوا عنقه , أغلب هذه النصوص القصيرة تتأسس على حدث ينبني عليه نقيضه ، أو فعل تكون نتيجته عكس ما يُبتغى منه ، وليس من شك في أن ذلك ينبئ عن حس انتقادي يتعقب ملامح السلوك البشري المفارق عبر رؤية فلسفية اتسمت بها هذه المجموعة .