في كتاب«أسد الأردن» لآفي شلايم..

نفي لأساطير صنعتها إسرائيل وصدقتها.

كتاب ألفه المؤرخ اليهودي غير الصهيوني أفي شلايم، وهو مؤرخ تنقيحي، أي أنه من المؤرخين الجدد الذين أخذوا على عاتقهم تصحيح الرواية الصهيونية المزورة عن الحروب الصهيونية العربية، في ضوء ما ظهر من وثائق من الأرشيف الصهيوني وأرشيف الدول الأخرى التي دعمت المشروع الصهيوني، والمؤلف من مواليد بغداد وقد أصدر مذكراته أخيرا بعنوان “العوالم الثلاثة: مذكرات يهودي عربي “، كما أصدر عدة كتب عن القضية الفلسطينية منها كتاب “ الملك عبدالله الأول و الحركة الصهيونية و تقسيم فلسطين” وكما يقول المؤلف فقد وثق في ذلك الكتاب المفاوضات بين الهاشميين والدولة الصهيونية “وقد توصل الطرفان إلى اتفاق ضمني بشأن تقاسم فلسطين الواقعة تحت الانتداب فيما بينهما” . ولذا فإنه بعد حرب ١٩٤٨ تبعت الضفة الغربية الأردن كما تبع قطاع غزة مصر. أرجع الملك بداية اتصالاته بإسرائيل إلى الرجل الطيب الذي يرعى صحة العائلة المالكة الأردنية، الطبيب إيمانويل هربرت، وهو طبيب قلب يهودي روسي، رشحته المخابرات البريطانية (MI5) ليكون طبيب الملك ووصفته بالتعقل والحذر، وكان للطبيب علاقاته بالسفارة الاسرائيلية، وخلال الفترة التي ذكرناها اجتمع مع الملك ست مرات، كما تابع علاج أفراد العائلة المالكة الأردنية، طلبت السفارة من الطبيب أن يبلغ الملك رسالة تقول: ما دام الملك على نهجه في مقاومة الناصرية فليس عليه أن يخشى من اسرائيل، أوصل الطبيب الرسالة للملك الذي قال: إنهم كعائلة حجازية لا يحملون أي مشاعر عدائية تجاه اليهود، وصرح الملك بعد ذلك أن حوله محيط عدائي، وأنه مؤمن بالسلام، ولا يعتقد بأن الحرب ستضع حلا لمشاكل العرب مع اسرائيل، وأنه ينظر إلى اسرائيل كأمر واقع. باتضاح توجه المنطقة إلى الحرب عام ١٩٦٧ أصلح الملك علاقاته مع عبد الناصر، ووقع الطرفان معاهدة دفاع مشترك، لكن الحرب انتهت لغير صالح العرب، ويعقب المؤلف بعد تفاصيل كثيرة أن الحسين لم يكن لديه أوهام بقدرة العرب على تحقيق النصر، ولكن مجزرة السموع (هجوم صهيوني على قرية السموع التي كانت تحت حكم الأردن) حطمت الثقة التي أولاها لجيرانه الصهاينة، ووجد نفسه مندفعا للتنسيق مع العرب حتى لا يبدو خائنا للقضية العربية ويُحمل وزر الهزيمة، وفي سبيل ذلك خسر نصف مملكته وكل جيشه وكل سلاح الطيران الذي يملكه. تقارب الملك حسين كثيرا مع عبد الناصر بعد حرب ١٩٦٧، الذي قال له: أشعر بأنني مسؤول، لقد فقدنا غزة والضفة الغربية، وهما يأتيان في المقام الأول، ولن أطلب أي انسحاب من قناة السويس، بل ستبقى مغلقة إلى أن يحين حل موضوع الضفة الغربية وغزة وقضية الشعب الفلسطيني، فامض وتحدث في الأمر، وتكلم عن حل شامل وعن سلام شامل، واعمل كل ما تستطيع من غير توقيع سلام منفصل، لأننا نريد حل المسألة بطريقة شمولية. وكان هذا تفويضا واضحا للملك ليتواصل سرا مع الصهاينة وهذا ما حصل. وقد شاع أن الحسين قد أبلغ الصهاينة بموعد حرب ١٩٧٣، ولكن المؤلف حشد الكثير من الأدلة التي تفند ذلك بصرامة شديدة. وأحد هذه الأدلة ما قاله مردخاي غازيت رئيس مكتب جولدا مائير: إن ما تسرب من اسرائيل عن ذلك كان من قِبل اللواء إيلي زعيرا رئيس المخابرات العسكرية الصهيونية خلال حرب أكتوبر، الذي حملته تحقيقات لجنة أجرانات مسؤولية التقصير في حرب يوم الغفران، فقد قال زعيرا: إن مائير لم تفهم أن كلام الملك يعني إعلامها عن الحرب، وعلق غازيت أن زعيرا يريد أن يوزع مسؤولية الإخفاق الاستخباراتي على أكثر من جهة. فالذي يدقق في اللقاء الذي سجلته المخابرات الإسرائيلية تسجيلا تلفزيونيا كاملا بشكل سري، والذي تحتفظ به اسرائيل لا يفهم أن الحسين قد قال شيئا يشير إلى ذلك. مضت في النهر تيارات كثيرة، في عام ١٩٨٩ وصل جورج بوش الأب إلى رئاسة أمريكا، وكان صديقا للحسين، تعارفا منذ كان بوش رئيسا للمخابرات الأمريكية. التقى الطرفان في طوكيو عندما ذهبا للمشاركة في جنازة الإمبراطور هيروهيتو. وهناك أعطاه الحسين نسخة من ملف مدموغ بعبارة سري جدا/ حساس، ضم الملف رسالة طويلة وملحقين: تاريخ الجهود الأردنية من أجل السلام من ١٩٦٧ إلى ١٩٨٩، وقائمة بالتزامات الولايات المتحدة ومواقفها بشأن التسوية السلمية. تحدثت الرسالة عن سلسلة من الأساطير التي أحاطت بالمشكلة وأعاقت الحل. واضح أنها جميعا أساطير صهيونية. اختيار الحسين لكلمة أساطير يعني بأنها أشياء غير حقيقية، لكن اسرائيل تحيط نفسها بها حتى لا تعطى حقا لأهله، ونعرض هنا لهذه الأساطير التي أوردها الملك: الأسطورة الأولى: التفوق العسكري الإسرائيلي الشامل سيدفع باتجاه السلام. ورغم التفوق الإسرائيلي الكبير فإنها لم تستطع أن تفرض سلاما لصالحها. الأسطورة الثانية: المفاوضات المباشرة بين إسرائيل والأردن والفلسطينيين يمكن أن تؤدي إلى انسحاب وسلام. ويوضح الملك أنه خلال عقدين التقى سرا بكل مسؤول اسرائيلي رفيع في مباحثات استغرقت حوالي ألف ساعة، ولم تقرب هذه المحادثات الطرفين من السلام، مما ترك لديه مشاعر الإحباط وخيبة الأمل. الأسطورة الثالثة: أن الصراع العربي - الإسرائيلي يُعتبر جزءا من السياسة الأمريكية الخارجية، ولكن الواقع يظهر أنها جزء من السياسة المحلية الأمريكية (اللوبي الصهيوني) أما العرب فلا حول لهم ولا قوة. ويعني هذا أن أمريكا التي استطاعت اسرائيل أن تلغى وجود أي طرف غيرها في الإشراف على أي مباحثات بين العرب والصهاينة عاجزة عن أن تفرض شيئا على إسرائيل. وهذا ما يشهده الجميع. الأسطورة الرابعة: أن قادة اسرائيل جادون في مقايضة الأرض بالسلام، وأنهم مخلصون في رغبتهم في حل الصراع، والحقيقة - في رأي الحسين- أنهم يراؤون ويختلفون الأعذار لعدم التحرك في اتجاه السلام. الأسطورة الخامسة: الاستيلاء على الأرض والاحتفاظ بها ضرورة للأمن العسكري. الأمن - في رأي الحسين- لا يتحقق إلا بالتعايش السلمي. منذ عام ١٩٨٩ العام الذي سُلمت فيه هذه الوثيقة للرئيس الأمريكي وهي تثبت صحتها كل يوم. بعد انتهاء حرب أكتوبر تُرك موضوع المفاوضات والسلام ل كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى، تم إبعاد الاتحاد السوفييتي، وأصبح دور الأردن ثانويا، وقد حاول الملك الدفع بخصوص سلام شامل يعيد الضفة الغربية دون جدوى، التقى مع جولدا مائير مرتين ومع رابين عندما أصبح رئيسا للوزارة حوالى ست مرات، كان زيد الرفاعي مرافقا للحسين، والكاتب يتحدث عنهما كثنائي قوى، قال زيد: أراد الملك أن يستعيد الضفة على مراحل، أو أن تبدأ المسألة بانسحاب إسرائيلي على طول خط الجبهة أسوة باتفاقات فصل القوات على الجبهتين المصرية والسورية، لم يكن الاسرائيليون يقدمون غير ما كانوا قدموه في مشروع ألون (الذي ينص على عدم التخلي عن القدس وعن استمرار السيطرة الصهيونية على طول نهر الأردن لمنع أي اتصال جغرافي بين الأردن وفلسطين) ، أحيانا كان الصهاينة يتحدثون عن تقاسم المسؤوليات بين الأردن وإسرائيل في الضفة الغربية، كأن يناط بالأردن الإدارة المدنية وتستمر اسرائيل في الإدارة العسكرية، لم يقبل الحسين بأي تنازل يخص القدس والضفة الغربية مقابل السلام. عندما اقترب الرئيس كارتر من الرئاسة في أمريكا تحدث عن حقوق الفلسطينيين ومنظمة التحرير، وشعرت اسرائيل والأردن بأنهما بحاجة إلى استئناف التباحث، لكن إصرار الملك على كل الضفة مع تعديلات حدودية طفيفة استمر فلم تتقدم المفاوضات لأن اسرائيل لا تريد ذلك. في مفاوضات أوسلو السرية وقعت المنظمة في كل المحاذير التي حرص الحسين على ألا يقع فيها، السلام المنفصل الذي وقعت عليه مصر ترك القضية الفلسطينية بلا حل، وحرمت الفلسطينيين من الارتباط بأقوى دولة عربية في مسارهما السلمي، فاوض الفلسطينيون في أوسلو دون مرجعية تحدد الهدف النهائي من المفاوضات والذي كان دائما العودة إلى حدود ٤ حزيران عام ١٩٦٧ م، ووقعوا على معاهدة قبل حل القضايا الأساسية، مثل الحدود والقدس والمياه والعودة أو اللاجئين. شعر الأردن بالخديعة، المفاوضات كانت سرية، أمريكا والأردن لم يعلما إلا في اللحظات الأخيرة، استفهم الحسين عن الشائعات من ممثل الموساد فطلب منه رابين عدم الإفصاح عن أي معلومات. بعد اتفاق أوسلو لم يعد هناك عوائق تمنع اتفاقا منفصلا بين الأردن والدولة الصهيونية. فكان اتفاق وادي عربة. كان رابين الشريك الإسرائيلى ومعه بيريز، بيريز أظهر أنه رجل سلام ولكن ما أن تولى رئاسة الوزارة حتى تحول من رجل سلام إلى رجل أمن. وقام بمهاجمة لبنان في عملية عناقيد الغضب، التي هدفت للضغط على حزب الله، كانت الخطة تهدف إلى تهجير سكان جنوب لبنان، ليصار إلى الضغط على الحكومة اللبنانية فتضغط بدورها على الحكومة السورية لتصبح سوريا قوة شرطة تضبط حزب الله. تشرد ٤٠٠ ألف لبناني، وتظاهر الأردنيون ضد اسرائيل، فأرسل الملك رئيس وزرائه عبد الكريم الكباريتي برسالتين استنكاريتين إلى بيريز ورئيسه عزرا فايتسمان، وفي اليوم التالي لعودة الكباريتي إلى عمان قتلت اسرائيل ١٠٢ لبنانيا لجأوا إلى مركز للأمم المتحدة، ما سُمى بمذبحة قانا. أراد الملك معاقبة بيريز فايد نتنياهو في الانتخابات، ويعتبر المؤلف أن الملك كان مخطئا، إذ أن نتنياهو دمر عملية السلام، علق مروان المعشر أول سفير للأردن في إسرائيل: إن قادة حزب العمل يفضلون التعامل مع الأردن ليتهربوا من الخيارات الصعبة مع الفلسطينيين، أما قادة الليكود فكانوا أكثر شرا، كانوا يريدون التواطؤ مع الأردن لمنع قيام دولة فلسطينية حسب ما جاء في اتفاقية أوسلو. وقد ذكر نتنياهو ذلك بوضوح للمعشر عند لقائهما في كافتيريا الكنيست قائلا : إن قيام دولة فلسطينية في الضفة خطر على إسرائيل وعلى الأردن، وعندما فند المعشر هذا الكلام ادعى نتنياهو أنه يفهم الموقف الأردني أكثر من المعشر. أول عمل قام به نتنياهو عند وصوله إلى السلطة أن قام بفتح نفق تحت المسجد الأقصى، ثم رفض تطبيق اتفاق أوسلو ٢ ، الذي كان مفروضا أن تتمدد بعده سلطة غزة لأريحا لتشمل كل الضفة الغربية، ثم أعلن عن بناء ٦٥٠٠ وحدة سكنية في مستعمرة هارحوما ( أبو غنيم) ، و كان ذلك يعنى عزل القدس تماما عن محيطها العربي، وجاء بعده شارون الذين كان أسوأ من نتنياهو، واستمر المسلسل الأسود إلى اليوم. رحم الله الملك حسين الذي ترك لنا وصاياه عن الأساطير الصهيونية، تلك التي لا زال صدقها يتحقق كل يوم، كان الرجل هو أكثر من عرف الصهاينة من العرب.