حالة عبور!

 يبدو الزمن في تجرّده كالجدار غير المرئي، فهو لا يظهر للعيان ولكنه متصوَّرٌ في الأذهان، ومن المفارقة أنه أكثر صلابة من الجدار المادي في تجسّده، فلا يمكن النفاذ منه إلى الضفة الأخرى إلا بخروج الروح، وعملية النفاذ هذه عملية شاقة هي ما نعانيه في الموت أثناء النزع والاحتضار، أثناء الانعتاق من الجسد، ومن الحسّ، ومن هذا العالم المثقل بالمادة الغليظة، إلى عالم أوسع وأرحب، عالم مفعم بالأشياء اللطيفة النورانية. ويمكن في هذا السياق أن نستعير للزمن صورة النهر الجاري بين عالمين، عالم العبور، وعالم الحبور أو الثبور. لكني هنا سأغلّب الحبور باعتباره الأصل في رحلة الإنسان إلى ربه وعودته إلى منازله الأولى قبل أن يسقط في هوّة التاريخ، فيعود مجددا في رحلة البحث عن معناه الأكمل والأمثل عبر هذه الصيرورة الزمنية التي تعبر به إلى غايته وتنقله من طور إلى طور، إلى أن ينتقل من ضفة العبور إلى ضفة الحبور. وردت في رواية (الموت في الشمس) لبيتر بلانجيو، هذه العبارة التي تربّت على كتف الفقد وتريك الجانب الأيسر من الموت في لحظة العبور، يقول ميلا، معلقا على موت أحد شيوخ القرية:”..يجب أن نذرف الدموع بعين واحدة وننظر إلى بركاتنا بالعين الأخرى.. إنه لم يمت ولكنه عبر الوادي إلى الجانب الآخر بحثا عن دفء الشمس... إنه ينظر إلينا كلما غربت الشمس، وهم هناك يملكون الفرصة للبدء من جديد، وسوف نندهش جميعا عندما نذهب إلى هناك”. إن النظر إلى الموت باعتباره حالة عبور من ضفة  إلى أخرى نظر مشترك بين كل الثقافات والأديان التي تؤمن بوجود عالم آخر أكثر اتساعا ورحابة، حتى مع اختلاف الرؤية، مما يعزز وحدة المصير في نظر أكثر الشعوب، بصرف النظر عن التفصيلات التي تختلف من ثقافة إلى اخرى. وفي التصور الإسلامي يبدو الموت حالة عبور إلى عالم أرحب حين تشرق الروح  فور اليقظة في القبر وحينئذ ينفض الميت عن عينيه ما علق بعالم الفناء ليدخل في عالم الأبد وليدا جديدا للتوّ خرج من رحم الحياة الأولى كما خرج من قبل من رحم أمه إلى عالم جديد. هذا هو الموت، إنّه حالة عبور إلى الضفة الأخرى من الوجود.