
بالأمس، كعادتي كل أسبوع، أخذت أقلب مواقع المجلات والصحف، وإن كنت قد فقدت رائحتها وعبيرها الأخاذ. وزفرت زفرة شوق لتلك الأيام التي كنت فيها أحمل بيديّ الصغيرتين صحيفة اليوم والرياضية والجزيرة ، والمجلة العربية, وغيرها الكثير من المجلات والصحف بعد أن ينتهي إخوتي من قراءتها. فلقد كان لتصفح أوراقها متعة لا يُغني عنها التصفح عبر مواقع الإنترنت الآن. وكدت أشتمُّ ذلك “التطور” الذي حرمنا من ذلك الشعور وعذوبته. وما إن أفقت من حنيني ذاك، حتى طالعتني إحصائية شغلت فكري، وأيقنت أنها ستخرج من قلمي شهدًا مصفى، يداوي الحيارى في أمر الثقافة والأدب. وها أنا ذا اليوم أنشرها عبر صفحات يمامتي، لتلحق بكم في بحور البحث والنقد الجاد، سعيًا لطرح تلك الفكرة وتسليط الضوء على تساؤلاتها. فكنت في بحور الفكرة تلك، تجذبني مرة وأجذبها مرات، ولعل مناط الاختلاف هو: ما هي الثقافة؟ وما حال الساحة الثقافية والنخبوية؟ وهل أصبحت هي الفارق والمميز للثقافة؟ ولعل تعريف كلمة “الثقافة” من أكثر ما حيّر العقول ، ولن نتطرق هنا لتعريف ابن منظور أو ابن فارس، أو لتعريفها لغةً واصطلاحًا، بل سأكتفي بهذا التعريف الجامع الشامل، وهو: “الثقافة هي كل ما يضيء العقل، ويهذّب الذوق، وينمّي موهبة النقد. وباشتقاق كلمةثقافة من الثِّقاف، يكون معناها الاطلاع الواسع في مختلف فروع المعرفة، والشخص ذوالاطلاع الواسع يُعرَّف بأنه مثقف. وتُعرَّف الثقافة أيضًا -اصطلاحًا- على أنها نظام يتكون من مجموعة من المعتقدات والإجراءات والمعارف والسلوكيات، التي يتم تكوينها ومشاركتها ضمن فئة معينة, والثقافة التي يكوّنها أي شخص يكون لها تأثير قوي على سلوكه.” وهذا التعريف الشامل ورد في موقع مؤسسة مسك للشاب نايف التويم، وقد حرصت على الاستشهاد به لعدة أسباب: أولها حداثته، وثانيها أنه صادر عن شاب، وهو محور الحديث والنقاش في هذا المقال، وثالثها شمولية المعنى. ولا تقل الحيرة أو تختفي عندما نأتي لتعريف المثقف ونسأل: من هو؟ ولن نخوض أيضًا في تعريفه كثيرًا، لكننا سنقف طويلاً عند المقصود بالساحة الثقافية وأنشطتها. وسنتوقف كثيرًا عند الاختلاف حول من هو المثقف، وهل هناك اختلاف طبقي؟ وهل دخل صراع الأجيال على ساحة الثقافة؟ كل هذه التساؤلات أثارتها إحصائية هيئة الأدب والنشر والترجمة حول مبادرة “الشريك الأدبي” وما حققته من نتائج. ولأن النقد يُعدّ من أساسيات الساحة الأدبية والثقافية، كان لي وقفة مع هذه المبادرة: هل حققت فعلاً أهدافها؟ نعم، المبادرة حققت قفزات سريعة في أهدافها: جعلت الثقافة أسلوب حياة، دعمت انتشار الكتاب السعودي، عززت دور المؤسسات الخاصة في النهوض بالثقافة، وساهمت في إلهام الأفراد للإنتاج الأدبي. وكل هذه الأهداف تم تحقيقها في فترة قصيرة، وهو أمر يدعو للفخر والاعتزاز. لكن، ثمّة هدف واحد سيظل عصيًا على التحقق إن استمرت الأمور على نفس الوتيرة , وإن لم تُكسر دائرة النخبوية. والتركيز على المشهور من الكتّاب والمؤلفين , لان الشخصيات المدعوة للحديث، رغم خبرتها وباعها الطويل، ما زالت تدور في فلك معين، بعيد عن روح الحوار الشبابي المعاصر وهذا يحد من انتشار الثقافة وجعلها اسلوب حياة , والذي هو من ضمن اهداف المبادرة . كما ان الحضور يقتصر على فئة واحدة، والفعاليات تستضيف الأسماء الكبيرة والمشهورة، وكأن الشهرة صارت معيار المثقف الوحيد. فهل يعني هذا أننا ندعو لاستضافة مشاهير السوشيال ميديا؟ وهل الفعل الصحيح هو ما قامت به بعض المقاهي من دعوة شخصيات قذفت بهم ثقافة الحشود والتجمهر؟! حاشا وكلا، أن نرى هذا الجُرم أمرًا محببًا وندعو له، بل إن دعوة كل ما تفرضه ساحات السوشيال ميديا هو جرم لا يُغتفر في حق الثقافة والأدب. إذًا، ما هو المطلوب؟ المطلوب، كما استشهدنا في بداية هذا المقال بتعريف شاب للثقافة، هو أن يكون اختيار الضيوف والمتحدثين وفق معايير ثقافية أدبية، مثل: • سعة الاطلاع لدى المتحدث • القدرة على الحديث الجيد • امتلاك القدرة على مخاطبة مختلف الجماهير وأن نبحث عن المتميز لا عن المشهور. وألا يقتصر الحديث على مدرسة واحدة من مدارس الأدب، بل يشمل كل أنواع الأدب والفكر. أما فيما يخص المواضيع، فلعل من أهم معاييرها حداثتها، وعنصر التشويق في اختيار عناوينها، وأسلوب البساطة في صياغتها. وما أجمل أن نسمع عن ندوة تجمع بين كاتب وأديب وناقد يحاوره شاب من الجامعة أو المرحلة الثانوية, وما أجمل أن نرى شراكة بين هيئة الأدب والنشر والترجمة ووزارة التعليم(عام – العالي)، على غرار شراكة وزارة الثقافة والتعليم في مشروع “المهارات الثقافية”، الذي كتبنا عنه مقالًا مفصلًا بعنوان: “عندما يتعاون العمالقة.” كما أن إقامة الفعاليات في أماكن لا تسمح إلا بعدد محدود أمر مزعج جدًا. فلماذا لا تُقام في المولات، وتكون هناك شراكة ومساهمة من التجار، وأصحاب رؤوس الأموال، ورجال الأعمال، والشركات، في استضافة هذه المناشط والندوات؟ هي أسئلة وتساؤلات أثارتها فكرة، وهذا ديدن الأفكار؛ فهي من تحرك عقولنا وقلوبنا في شتى مناحي الحياة. فهل استحقت هذه الفكرة، التي أشغلتني، هذا الجهد وهذا الإيضاح والتبيان؟ أترك لكم الجواب، قراء اليمامة الفضلاء، ففي فكركم وعلمكم ما نقف أمامه موقف التلميذ المتعلم.