اليوم المملكة تحتفي باليوم العالمي للمتاحف ..
المتحف الوطني السعودي.. سردية الهوية والذاكرة.

في الثامن عشر من مايو، يلتفت العالم سنويًا إلى المتاحف بوصفها أوعية للذاكرة، وجسورًا تربط الماضي بالحاضر، وتمنح المجتمعات فرصة للتأمل في إرثها الثقافي ضمن سياقات عالمية متغيرة، وإذ تشارك المملكة هذا العام في هذه التظاهرة العالمية من خلال فعاليات يحتضنها المتحف الوطني السعودي، الذي يُفعّل دوره كمؤسسة ثقافية فاعلة، تستشرف المستقبل وتعيد قراءة الحاضر عبر شواهد التاريخ ومقتنياته، فإن العديد من الفعاليات تُقام في مقر المتحف بالرياض تحت شعار “مستقبل المتاحف في مجتمعات سريعة التغيير”، وهو شعار يختزل التحديات التي تواجهها المتاحف في عالم متحوّل، ويطرح في الوقت ذاته تساؤلات ملحّة حول دور المتحف في تعزيز الهوية وتثبيت الذاكرة في ظل التحولات المتسارعة، وتشهد الفعاليات حضورًا نوعيًا من المختصين والمهتمين بالشأنين الثقافي والتراثي، في تظاهرة معرفية تعبّر عن التزام المملكة بتفعيل مؤسساتها الثقافية، وبدور المتاحف في ترسيخ الانتماء وإثراء الحوار الحضاري. حوارات تُنصت للمستقبل نظّمت هيئة المتاحف لقاءً مفتوحًا في المتحف الوطني السعودي بعنوان “مستقبل المتاحف في المملكة”، وذلك في إطار الاحتفاء باليوم العالمي للمتاحف 2025، الذي يُقام هذا العام بالتزامن مع تخصيص العام الجاري للحرف اليدوية، وفي افتتاح الفعالية لم يكن الحضور مجرّد متلقّين، بل فاعلين ومبادرين في قلب الحوارات والأنشطة التفاعلية التي صمّمت لتكون منصّاتٍ حيّة للتبادل المعرفي، دُشِّنَ اللقاء بحضور سمو الأميرة هيفاء بنت منصور بن بندر آل سعود، رئيس مجلس إدارة اللجنة الوطنية السعودية للمجلس الدولي للمتاحف (ICOM Saudi Arabia)، والتي أكدت في كلمتها الافتتاحية على أهمية تعزيز الشراكات الدولية وبناء متاحف متجددة، تنبض بالحياة وتواكب روح العصر، وتُسهم في تعزيز الهوية الثقافية للمملكة، كما شاركت السيدة رولا الغرير، المدير العام للمتحف الوطني السعودي، بكلمة سلّطت خلالها الضوء على دور المتاحف الوطنية في تشكيل الوعي المجتمعي، وضرورة التحوّل من نمط العرض التقليدي إلى نماذج أكثر انفتاحًا وتواصلاً مع الجمهور، مؤكدة أن المتحف بات اليوم منصّة ثقافية تعليمية، وليست مجرد مخزن للآثار أو التحف. افتُتح البرنامج بحوار ثري بعنوان “التراث الحي في مجتمعات سريعة التغيّر”، ألقى الضوء على أهمية توسيع مفهوم “التراث” ليشمل الممارسات والتقاليد المتجددة، وتبعه نقاش معمّق بعنوان “المتاحف والتغيير”، حيث تساءل المشاركون: كيف يمكن للمتاحف أن تتحوّل من مؤسسات حافظه للماضي إلى كيانات موجهة للمستقبل؟ وتطرّق النقاش إلى أدوار المتاحف الجديدة كقوى ناعمة تواكب التحولات الثقافية والاجتماعية، وتعيد تشكيل العلاقة بين الجمهور والمكان، بين الذاكرة والواقع. ضمن هذه الروح، شهدت الفعاليات جلسة تفاعلية بعنوان “القصص والفنون الأدائية السعودية في المتاحف”، برزت فيها أهمية السرد الشفهي والفنون الأدائية كمكوّنات أصيلة للهوية الوطنية، لا سيما في المجتمعات التي يتناقل فيها الناس قصصهم بالأداء كما بالكلمات. وقد نوقشت سبل إدراج هذه الفنون ضمن العروض المتحفية كوسائط حية تحفظ الذاكرة وتبني جسور الانتماء، وتوجّه رسالة واضحة: المتحف ليس فقط مكانًا لحفظ الأشياء، بل فضاء لحفظ المعنى، ومرآة لحيوية الإنسان في تاريخه وثقافته، كما احتضنت الفعالية حوارًا نوعيًا بعنوان “التحديات التقنية في التراث الثقافي”، ناقش فيه المختصّون كيف يمكن للتقنية أن تتحول من تهديد مُفترض إلى حليف قوي للتراث، عبر أدوات الحفظ الرقمي، والمعارض الذكية، والتوثيق ثلاثي الأبعاد، والمنصّات التفاعلية التي تُمكّن الجمهور من خوض تجربة معرفية جديدة، تتجاوز التلقي السلبي إلى المشاركة الواعية. وفي بُعد عملي لتجسيد هذه الأفكار، قُدّمت ورشة إبداعية بعنوان “الحرفة والتقنية: فن الحياكة الإلكترونية”، استكشفت العلاقة المتنامية بين الحرف اليدوية الأصيلة والتقنيات المعاصرة، حيث التقى نولُ الحائك بخوارزميات الذكاء الاصطناعي في تجربة جمالية ومعرفية مبتكرة. جمعت الورشة بين تقنيات التطريز التقليدي والبرمجة الإلكترونية، في محاولة لصوغ سردية جديدة للحِرفة بوصفها فعلًا مستمرًا يتكيّف ويتجدّد، لا بوصفها فنًا منقرضًا أو محنطًا. وقد عبّر الحضور، من مهتمّين ومتخصصين، عن أهمية هذا النمط من الفعاليات التي تجمع بين التأصيل والتجريب، وتحفّز التفكير الجمعي حول ملامح “متحف المستقبل” الذي تتطلع إليه المملكة، متحف يدمج بين الأصالة والتقنية، بين رواية الوطن واستشراف العالم، بما ينسجم مع مستهدفات رؤية السعودية 2030، وتوجيهات القيادة الرشيدة نحو تعزيز دور المتاحف كمراكز إشعاع حضاري ومعرفي ومجتمعي. وجهة حية بين الماضي والحاضر منذ افتتاحه في عام 1999م، ينهض المتحف الوطني السعودي بدور يتجاوز المفهوم التقليدي للمتحف بوصفه مكانًا ساكنًا لحفظ الآثار، ليغدو فضاءً ديناميكيًا مفتوحًا على التأويل والاكتشاف، فهو لا يكتفي بعرض شواهد التاريخ على رفوف زجاجية، بل يُشرك الزائر في رحلة وجدانية ومعرفية تمزج بين الحاضر والماضي، على امتداد مساحة تتجاوز 17 ألف متر مربع، تحتضن آلاف القطع الأصلية التي تمتد من النقوش والمخطوطات النادرة، إلى التماثيل والأدوات وشواهد العصور المتعاقبة التي مرّت على الجزيرة العربية. المتحف الوطني، على وجه الخصوص، لا يكتفي بعرض مقتنياته الدائمة، بل يتبنى روح التفاعل من خلال المعارض المؤقتة، والبرامج التعليمية، وورش العمل، والفعاليات الثقافية التي تُعقد على مدار العام، ما يجعله منصة نابضة بالحياة، ورافدًا مستمرًا للحوار المجتمعي، والتقاطع بين الأجيال والاهتمامات، وتعود نواة المتحف إلى عام 1964م، حين بدأت المملكة تتجه بوعي راسخ نحو حفظ إرثها الأثري والعمراني، مدفوعة برؤية تستشرف المستقبل عبر إعادة الاعتبار للماضي، ومع مرور العقود، لم يتوقف المتحف عن التطور، حتى تجلّى في صورته الراهنة كمركز إشعاع ثقافي تمّ افتتاحه رسميًا في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز، ضمن احتفالات مرور مئة عام على استرداد الرياض، وهي لحظة مفصلية في التاريخ الوطني جعلت من المتحف شاهدًا حيًا على سردية الهوية السعودية. موقع محوري اليوم، يحتل المتحف موقعًا محوريًا في قلب المملكة، محاطًا بمعالم شاهدة على بناء الدولة الحديثة، مثل قصر المربع، وجامع الملك عبد العزيز، ودارة الملك عبد العزيز، وبهذا لا يقف المتحف وحيدًا، بل يتداخل مع نسيج عمراني وثقافي متكامل، يشكّل ما يشبه القلب النابض لذاكرة الوطن، ومرآة تعكس تحولات الإنسان والمكان، وفي ظل إشراف هيئة المتاحف، تمضي المملكة بخطى واثقة نحو إعادة تعريف العلاقة بين الجمهور والمتحف، بحيث لا تكون الزيارة فعلًا عابرًا، بل تجربة حسية ومعرفية متكاملة. تتبنّى الهيئة أفضل الممارسات العالمية في تطوير القطاع، وتسعى إلى تحويل المتاحف إلى مراكز تعليمية تفاعلية تُلهم الزائر، وتفتح له نوافذ واسعة لفهم السياقات الحضارية، وتذوق الجماليات المضمرة في تفاصيل القطع المعروضة. وهذا التوجه ينسجم مع روح اليوم العالمي للمتاحف كما أرستها اللجنة الدولية للمتاحف (ICOM) منذ عام 1977م، بأن المتاحف لم تعد مجرد حجرات صامتة لعرض التاريخ، بل فضاءات حيّة للحوار، ومنصّات للتفاهم، وجسورًا ممتدة بين الشعوب والثقافات، ويتناغم أيضًا مع ما ترنو إليه المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين، من ترسيخ للهوية الوطنية، وتعزيزٍ للمكانة الحضارية والثقافية للمملكة على الصعيدين الإقليمي والدولي، ففي ضوء رؤية السعودية 2030، لم تعد المتاحف مجرد مستودعات للتراث، بل أضحت أدوات فاعلة في بناء الإنسان، وتعزيز الانتماء، وتحفيز الإبداع، وصناعة اقتصاد معرفي وثقافي مزدهر. وتأتي هذه الرؤية لترسّخ قناعة عميقة بأن الذاكرة الجمعية ليست عبئًا على المستقبل، بل زاده ووقوده. ومن هنا، يتحول المتحف الوطني السعودي إلى نموذج حي لهذا التحوّل، حيث يُعاد تأويل التاريخ لا بوصفه نهايةً ماضية، بل بوصفه بداية مُلهمة لمسيرة متجددة نحو غدٍ أكثر وعيًا وثراءً وعمقًا