«أول مؤذنة في الإسلام» وأشياء أخرى!
يأسرني الوقت الذي أحاول فيه القبض على انفلات الذاكرة، وتجاهل إحساس الفوات في الجملة الشهيرة (أيام الزمن الجميل). لكن قرار السفر إلى القرية – وحده - ينال مني وعودًا بأيام راكضة شقية، وتنهال أتربة العمر على وجهي كما هي ملونة خلابة. منذ لحظة (لمّ بقشة السفر) إلى مشوار الطريق، حيث تسكن كل الحواس، ويلف السيارة بمن فيها هدوء ووقار لا يشبه أيام المغادرة المتحمسة إلى مكان لا نعرفه. مطرقين كل واحد منا يقلِّب ذكرياته بين أرقام العمر في دينامو الحياة وفي ابتسامات شاردة لا يعرف سرها أحد. لحظة خشوع خاصة نتبادل فيها أسرار وتناهيد. نبحث عن الرفيق، المنحوس، الشاطر، المنزوي، الألثغ و(الغشيم)، ومن تذوق فرحة (العشرة الاوائل) والذي لم يعرف سوى (راجعنا في الدور الثاني) هذا تحديدا تخصصه نبش الماضي وله ذاكرة قوية. لحظة يواجه فيها الرجل الناضج ذاك الطفل البارع في صيد القماري ونبل أعشاش طيور النُغري ومناورات البراجون التعصبية، وكل أمنياته دراجة موعودة ومرهونة في كل عام بنتائج المدرسة. يتوقف في محطة قديمة طمرتها رمال الساحل ويردد (الله يسقي) ليصافح شابا تتنازعه مراسيم (أنت خلاص كبرت) وطفولة لم تصل للخلاص في محاولة أن يرضى عن أدائه الكبار. وبين حزم (أنت لسى صغير) حين يبدأ في تقليد الرجال ويستعجل الزمن برفقة صديق هوايته (التهور)، ودفع رغباته إلى وقت آخر ربما يكون فيه استثمار الحلم في المنام أفضل من تحقيقه. ثم بعد كل هذا يلقاه مضطرا إلى ترحيل كل ما كان والركض خلف عُمّال بناء المستقبل، وصنائعية الغد، ووعود المدينة (الفاضية). في اجتهاد الصمت أفكر كيف نواجه الماضي كل مرة؟ وكيف ألآحقني طفلة (شيطانة)، تتسلق سطوح البيوت وبرشاقة تقفز بينها كالوشق. تغلق باب البيت على معلمة العلوم (النكدية) من الخارج بقفل حديدي اشترته خصيصا لهذه المهمة، ثم مع بكرة الصباح تتفاجأ بها أمامها تتمشى بين الفصول، كيف خرجت؟ دهشة فيزيائية لا تذوب بسرعة في مخيلتها. سؤال بريء وضحكات أكثر جنونا وهي تهرب من المسجد بعد أن قامت بفريضة الأذان نيابة عن المؤذن لكن غلطتها الوحيدة أن الأذان انطلق ما بين العصر والمغرب ولم (تمر لمة خيالة) بل استقبلتها عصا المديرة في طابور اليوم الثاني ونظرات المعلمات المتضاربة. وحازت على لقب (أول مؤذنة في الإسلام). لهفة تنقض ضفائر العمر إلى صبية فاتنة بلا غواية إلا من أمنيات حصولها على علبة ماكياج حقيقية، والتغافل عن أشرطة الأغاني والمجلات النسائية المخبوءة خلف (النملية)، وجدال لبس العباءة المبكر في ظنها. متورطة في ثرثرة النسوة والجارات ونائية عن نميمة (العيب) على النحو الذي وضعوه في أفواهنا منذ خلقنا. لا تزكينا سوى ذرابة الفطرة وفطنة الخطوة. في الوديان وتحت النبق، تحت الأمطار ومطاردة زهور السكب، تطاير زهيرات الأمل ومجاراة السيل الثائر، ركض مجلّل بسيرة الزمن. حنين لا ينقطع ويعاد تدويره كل مرة، كحبل مرساة يشدّ قارب العمر ورغم ما يخالطه من ظن بأن الجميل كله كان هنا ولم يعد هناك ما هو أجمل ... غير أن لحظة تفريغ شنطة السفر من أغراضها بعد العودة حين تنثرها (سلافة) الصغيرة و(تدحش) جسمها داخلها، وأُمثّل أنني متفاجئة من وجودها، وتتعالى ضحكات ترتب صخب الأيام، وتعيد عدّاد الوقت، وتنذر بشقاوة مختلفة متفردة قادمة من أقصى المدينة.