قفا نركض
هل ترى تناقضا في هذا العنوان؟ إذا كنت ترى ذلك، فأنت لا تعرف لغة الشعر الجاهلي، فالمراد من الوقوف في قوله (قفا نبك) لم يكن الوقوف المادي، بل هو وقوف الحالة الوجدانية؛ حالة الذكرى، فالبكاء ــ كما قال أبو نواس بسخرية عدوانية بليدة ــ لا يحتاج إلى الوقوف، إذ يمكن أن تبكي أنت وغيرك، وقوفا وقعودا وحزنا وفرحا. وحين قالها الشاعر الكبير لم يكن على طلل، بل هو يتذكر في سهرة شراب. ثم قل لي: هل هذا أول شيء حسبته تناقضا؟ أولم تلتفت إلى عشرات التناقضات التي تمر عليها أنى توجهت وفي كل حين؟ أنا لا أعني بالتناقض معناه الفلسفي، ما أعنيه هو مجرد اللعب باللغة. مثلا: (اطلعي يا عروسه عالكرم نقي عنب / طلعت العروسه / من الكرم طار العنب / طلعت العروسة تنقي تين / ضحكها الناطور وقلبو حزين / ولوحت بعيونه لفته مليانة عتب / وضاع بها البراري وانبح صوت القصب) هل رأيت لعبا لغويا له هذه العذوبة؟ ولكن هنا تأتي الأسئلة: من طلب من العروسة هذا الطلب الغريب، واضطرها إلى ترك مباهج العرس، وترك عريسها وهو يتقلب عل جمر اللهفة ؟ ثم ما ذنب الناطور المسكين الذي لم ير في حياته عروسة يضحك عليها رنين الذهب مثل هذه؟ ألا تسأل: كيف ضاع في البراري وهو وسط حقله؟ أي كيف تحول الحقل في عينيه إلى صحراء؟ وكيف؟ وكيف؟ أمّا كيف أن العنب طار من عرائشه عند دخول العروس فهذا تحتاج معرفته إلى فيلسوف لا يشق له غبار، لا في الليل ولا في النهار. دعنا أنا وأنت نتخيل الفيلسوف كيف سيفكر في هذه المسألة؟ هو فورا سيقوم ويقعد مرارا، وهو يضحك، وهنا ستركض زوجته إليه مذعورة؛ لأنها لم تره ضاحكا في حياته، فظنت به ظنا نفسيا حالكا، وسألته عن سبب ضحكه، فقال: أضحك على فساد اللغة عند هؤلاء الغوغاء الذين يسمونهم الشعراء؛ إذ كيف يطير العنب وهو بلا جناحين؟ إن هذا مناف للعقل وللفلسفة، وأذكر كيف طردهم أفلاطون من الجمهورية، وكنت حاضرا، وكانت بينهم شاعرة يقولون: إنها جميلة. فقاطعته زوجته: يعني جميلة مثلي؟ فقال: لا أدري. فلطمته لطمة يتطاير منها الشرر، فنسي كل معلوماته، وهرع إلى السوق لشراء ثلّة من دواوين الشعراء. ملاحظة: أرجو ألا يغضب شاعرا الأغنية من عدم ذكر اسميهما كالشاعر الحميدي الثقفي.