التعاونيات بين المُسَرِّعات والمُوْهِنات 3/2
في المقالة السابقة سَلَّطْتُ الضوءَ على “الوضع الراهن للقطاع التعاوني في العالم” وفي هذه المقالة سأستعرض عَدَدًا من مُسَرِّعات ماكينة “القطاع التعاوني” الكفيلة بدفعه قُدُمًا نحو الأمام، وبكل كفاءة وتكامل، لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المناطة بهذا القطاع الهام. تلك المُسَرِّعات التي أعْتَبِرُها تروسًا مهمة ورئيسة، ولكل منها دورٌ حيوي ومؤثرٌ، ولو توقف أحدها لَسَبَّبَ إبطاءً في الانطلاق، إن لم يتسبب بتكَسُّر التروس الأخرى. إنها الروافع التي تُعَبِر عن المبادئ الأساسية المنظمة للقطاع التعاوني، والتي اعتمدها “الحلف التعاوني الدولي” في مؤتمره العام الذي انعقد في “مانشستر” في عام 1995م. إضافة إلى “توصية منظمة العمل الدولية” رقم (193) لعام 2002 بشأن تعزيز التعاونيات” والتي نصت على (الإقرار بأهمية التعاونيات في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإعادة تأكيد الهُوِيَّة التعاونية، والمعاملة المتساوية للتعاونيات، وتحديد دور الحكومات في إنشاء إطار سياسي وقانوني داعم، وفي تيسير الوصول إلى خدمات الدعم والتمويل، ودور تعزيزي نشيط لأرباب العمل، والعمال والمنظمات التعاونية، وتشجيع التعاون الدولي). وحيث أن التعاونيات هي جمعيات مستقلة للأفراد الذين يجتمعون طواعية لتلبية احتياجاتهم وتطلعاتهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المشتركة من خلال مؤسسة مملوكة لهم بشكل مُشْتَرَك، فإنه يأتي في مقدمة مُسَرِّعات النشاط التعاوني >العضوية الطوعية والمفتوحة< التي تعني أن العضوية في “التعاونيات” طوعية وليست الزامية، بحيث يتقدم الشخص – رجلًا أو امرأة – بكامل إرادته، وبمحض اختياره للإسهام في تأسيس “التعاونية” كي لا يكون مُرْغَمًا على ذلك، وبالتالي يتسبب في إضعافها وانهيارها. وهذا المبدأ بالغ الأهمية لعمل “التعاونيات” وضمانة قوية لنجاحها، حيث يسمح لمجموعة واسعة من الأفراد بالالتقاء والعمل من أجل تحقيق أهدافهم الاقتصادية والاجتماعية المشتركة. ثم يأتي بعد ذلك المُسَرّعِ الثاني للعمل التعاوني، المتمثل >بالديمقراطية في الإدارة، والمشاركة باتخاذ القرارات< بمعنى أن يكون لكل عضو في “التعاونية” رأيٌ متساوٍ مع الأعضاء الآخرين، بغض النظر عن مقدار إسهامه المالي، وبالتالي يمنح الأعضاء إحساسًا غامرًا بالمُلْكِيَّة والسيطرة على “التعاونية” والمشاركة بصنع القرار على نحوٍ متساوٍ بين الأعضاء. وهذا >المبدأ< بالغ الأهمية حيث يَحُول دون سيطرة كبار حملة أسهم “التعاونية” عليها، وتحكمهم باتخاذ القرارات التي تضمن تحقيق مصالحهم دون غيرهم من صغار الأعضاء، ومن شأن هذا >المبدأ< تعزيز الشعور لدى كافة الأعضاء بالانتماء “للتعاونية” والالتزام بأهدافها وقراراتها. أما مبدأ >المشاركة الاقتصادية للأعضاء في رأس مال “التعاونية” وتمويل مشاريعها< فإنه يُعَد الحجر الأساس في البناء التعاوني. الذي يساعد على إنشاء وتعزيز القاعدة المالية للتعاونيات، من خلال استثمار أموال الأعضاء الخاصة، بحيث يكون للأعضاء مصلحة مباشرة في نجاح “التعاونية” ويتم تحفيزهم للإسهام بمشاريعها المتعددة، بهدف إنشاء البنية التحتية، وشراء الأصول، وتوسيع العمليات، وتطوير مشاريع جديدة. وتقاسم الأرباح ناهيكم عن توزيع المخاطر المالية بين الأعضاء. وهناك مبدأ بالغ الأهمية إنه المبدأ الرابع من مبادئ العمل التعاوني، ذلكم هو >الاستقلال الذاتي للتعاونية< وللتنبيه، إن هناك فهم مشتبه تجاه هذا >المبدأ< بين أعضاء التعاونيات من جهة، والجهات المشرفة عليها من جهة أخرى، على نحو متعارض إلى حد كبير. فبعض التعاونيين يذهبون بعيدًا في فهم هذا المبدأ لحافة الانفلات، بينما تنحو بعض الجهات المشرفة تجاه تقييد “التعاونيات” إلى حَدٍ التعطيل. >فالاستقلال الذاتي للتعاونيات< يعني أن “للتعاونية” الحق بانتخاب مجالس الإدارات من أعضاء تنطبق عليهم الاشتراطات التي نص عليها “القانون/ النظام العام للتعاونيات” فقط دون التوسع في وضع تحوطات اجتهادية من شأنها إعاقة “التعاونية” وحرمانها من خبرات إدارية ومالية واجتماعية عريقة وذات باع طويل في العمل التعاوني. كما إنه من حق “التعاونية” اتخاذ القرارات التي تتوافق مع لائحتها الأساسية، وتنسجم مع “القانون/ النظام العام للتعاونيات” بما لا يتعارض مع “القوانين / الأنظمة” المرعية في البلد، وأن “للتعاونية” الحق في مخاطبة أعلى سلطة في الدولة، ولا حاجة للمرور عبر تراتبيات تُفرَضْ بلا سند قانوني. في المقابل يكون للجهة المشرفة وفقًا لنصوص “القانون / النظام” مراقبة ما تتخذه “الجمعية العامة للتعاونية” من قرارات للتأكد من التزامها “بالقانون/النظام العام للتعاونيات”. إن تنازع الصلاحيات، وتدافع المسؤوليات بين “التعاونيات” و”الجهات المشرفة” وفرض اجتهادات، من الطرفين بلا ضوابط ولا مسوغات - قانونية/ نظامية - يتسبب في غالب الأحيان بتعريض “التعاونيات” لهزات غير محسوبة، ووضع العصي في عجلاتها، وتهيئة الظروف السلبية لتعطيلها. وحيث إن كثيراً من المجتمعات تشهد أميةً تعاونية – شبه مُطْبِقَةٍ – ولكون التعليم والتدريب والثقافة التعاونية – جميعها - تلعب دورًا حاسمًا في نجاح “التعاونيات” واستدامتها، فقد ابتدع “الحلف التعاوني الدولي” مبدأً أساسيًا خامسًا >التعليم والتدريب والإعلام التعاوني< وذلك لأجل مكافحة الأمية التعاونية، المتفشية على كافة المستويات المجتمعية - خاصة في الدول حديثة التجربة في العمل التعاوني - وتوعية المجتمعات بأهمية ، بل بضرورة “التعاونيات” وحتمية وجودها، وذلك عبر الدورات التعليمية والتثقيفية والتدريبية في المجال التعاوني، والاقتصاد الاجتماعي والتضامني. وهناك العديد من المعاهد والمراكز والجامعات حول العالم، تُنَظِّم برامج دراسية على مستوى درجة الدبلوم، والبكالوريوس، والدراسات العليا، في جوانب مختلفة من أعمال المؤسسات التعاونية – جمعيات واتحادات – وتقيم مناسبات، تدريبية، وثقافية، وتوعوية منتظمة لأعضاء مجالس الإدارات في “التعاونيات” من تلك المؤسسات الأكاديمية على سبيل المثال لا الحصر: “المعهد العالي للدراسات التعاونية والإدارية” في “ج.م.ع.” وكلية “سوبي للأعمال” في “جامعة سانت ماري” و “مركز دراسات التعاونيات” في “جامعة ساسكاتشوان” و”جامعة فيكتوريا” و “ جامعة كيبيك” في “ريموسكي” جميعها في “كندا” وكذلك “جامعة موندراجون التعاونية” في “إسبانيا” و”مركز التعاونيات” في “ جامعة ويسكونسن ماديسون” في “الولايات المتحدة” و “ جامعة بولونيا” في “إيطاليا” و”الجامعة التعاونية “ في “كينيا” و “الجامعة التعاونية” في “تنزانيا” و “معهد التعاونيات” في “راوندا” إضافة إلى “الاتحاد الأفريقي لرابطة الادخار والائتمان التعاونية”. ولضرورة تعزيز القوة الجماعية “للتعاونيات” من خلال تكامل المنافع، وتبادل الخبرات بين “التعاونيات” لأجل تحقيق وفورات الحجم في الشراء، والإنتاج، والتسويق، والتوزيع. فقد اعتبر “الحلف التعاوني الدولي” >التعاون بين التعاونيات< مبدأً أساسيًا من مبادئه التوجيهية الهامة، وذلك لإكساب “التعاونيات” قدرة أقوى على التنافس بشكل أكثر فعالية أمام الشركات الكبرى، والتفاوض على شروط أفضل مع الموردين والمشترين، وتسهيل وصول “التعاونيات” إلى الأسواق الداخلية والخارجية، مما يساعدها على التوسع بشكل أكثر فعالية وأمان مالي وإداري. وإدراكًا من “الحلف التعاوني الدولي” للدور الإنساني الهام والنبيل المناط “بالتعاونيات” كَوْنها مؤسسات اقتصادية واجتماعية – على حدٍ سواء – ولكون “التعاونيات” مترابطة عضويًا، وبعمق مع قطاع البيئة، والاقتصاد المحلي. فقد أكد “الحلف” على مبدأ >الاهتمام بالمجتمع المحلي< تتويجًا لمبادئه الأساسية، ومكملًا لها. وذلك لتمكين “التعاونيات” من تقديم المساعدة للفئات المحتاجة للرعاية الصحية، والغذائية، والثقافية، والمساعدة على بناء مجتمع سليم ومتماسك، وتشكيل حياة مستقرة، ومستدامة للأجيال الحالية والمستقبلية، بما يحدث تأثيرا إيجابيًا ودائمًا على حياة المجتمعات. هذه هي المسرعات الرئيسة التي اعْتَبَرَها “الحلف التعاوني الدولي” أركانًا هامةً، ودعامات أساسية “للتعاونيات” لابد من بنائها بشكل صلب، لضمان صمود هيكل القطاع التعاوني، أمام الرياح الاقتصادية العاتية، والمتغيرات الاجتماعية والجيوسياسية المتتابعة، التي يشهدها العالم على نحو مستمر، لا سيما في ظل العولمة، وتعاظم ظاهرة الشركات العابرة للأوطان. في الحلقة الثالثة والأخيرة – القادمة - سوف أتناول، وعلى نحو مُفَصَّل، مُوِهِنات العمل التعاوني، التي تسببت في الماضي، وتتسبب في وقتنا الراهن بإضعاف حيوية هذا القطاع الهام، وتُسْهِم بإبطاء حركته، وتَنْخُر في جسمه، حتى يلفظ أنفاسَه الأخيرة – لا قَدَّرَ الله.