فروسية العالم القديم!.
(1) يتحدّث طفل فلسطيني عن فرحه بالهدنة، رغم أن مدتها قصيرة جدا، أربعة أيام فقط، ويتمنى أن تطول إلى الأبد، وأن تخلو السماء من أزيز الطائرات، وهي أمنية كل أطفال غزة، وأطفال العالم؛ فالحرب اليوم تختلف عنها في العالم القديم الذي كان أكثر فروسية في أسلحته وعتاده ومبادئه وشروطه وقيمه التي تراعي حدود المعركة وتحتفظ لمن هم خارج الميدان بحقّ الأمن والسلام. (2) لم تكن المعارك القديمة تمسّ طفلا أو امرأة أو شيخا يدبّ على الأرض، لم تكن المعارك القديمة مثل اليوم يختلط فيها القويّ والضعيف، والمقاتل والذاهل، ويتقاسم أوزارها كل الناس عن بكرة أبيهم، لم تكن عن بعد، لم تكن طائشة بلا مبارزة، لم تكن كالحرب اليوم لا تتحيّز فيها فئة عن فئة ولا يتزيّل فيها الضعفاء عن الأقوياء، لم يكن فيها حضور للجبناء الذين يوغلون في النزع والقتل والتشريد. (3) كان قرار الحرب لا يعنى به إلا الفرسان، لأن العالم القديم كانت له فروسيته وقيمه ومبادئه؛ خلافا لعالمنا الجديد الذي يحتاج فيه القرار إلى معرفة واسعة بأرض المعركة وأبعاد ردود الأفعال والنظر في المآلات نظرا حصيفا لا يملكه إلا من يفهم جيدا على ماذا تأسس العالم الجديد؟ وكيف تُبنى علاقاته؟، وما هي أسلحته؟، وكيف تساس الأمور؟ ومتى يُستدرَج الخصم إلى أرض المعركة؟ وما الذي يمكن أن يحدث حين يشتعل أوَّل فتيل في الحرب؟ (4) الرأي قبل شجاعة الشجعان. قالها المتنبي قبل أن يرى عالمنا اليوم، وقبل أن يعرف أن الحرب يمكن أن يقررها رأي من خارج ميدان المعركة وبضغطة زر، وربما نام صاحب القرار بعد ذلك نومة طويلة واستيقظ على الدماء والدمار. هكذا يمكن أن يشارك في قرار الحرب أحد المنتفعين بحدوثها، ويمكن أن تدار بأيدي ليست الحرب بالنسبة لها سوى لعبة بلاي ستيشن، حين تصل إلى نهايتها تضيء الشاشة بالبالونات والهتاف معلنة نهاية اللعبة! يمكن أن يكون ذلك، ويمكن أن يحدث أكثر من سيناريو دون أن يكون لفرسان المعركة دخل في كلّ ما حدث سوى الاحتفال بالموت! لذلك كان الرأي قبل شجاعة الشجعان، ولذلك أيضا لا يمكن لأحد أن يدّعي أنه صاحب الكلمة الأخيرة في نزاع الحرب! (5) لا أصغي لأي حديث عن البطولات إلا من داخل المعركة، ولا أسمع لأحد لم يذق وجع الحرب حين يكون السياق سياق بطولات وتضحيات بالأرواح، أما الذين خارجها فلا يحق لهم الحديث عن بطولات المعارك، ولا يصحّ لهم التحريض على الحرب، فالنبيّ عليه الصلاة والسلام كان يحرّض المؤمنين على القتال وهو داخل العريش في بدر، وكان يسبقهم إلى مواطن الخوف والموت، وكان يطرق قبلهم باب السماء، ومع ذلك كان يستشير ويطلب النصيحة ويسأل عن المواقف قبل أن يدخل في القتال، كان يفعل كلَّ ذلك رغم أنّه نبي يأتيه المدد عيانا من السماء، ويأتمر بأمر ربّه وهو على بصيرة كاملة بميدان المعركة. (6) روح الروح، من الآن فصاعدا، ستكون هذه العبارة هي التعبير الأصدق والأنسب لعلاقتنا بأطفالنا، وهي التعبير المركّب الذي يشدّنا إلى كل الأطفال، امتدادا لعالم النور الذي يملأ قلوبهم وتعبيرا عن الميثاق الوجداني بيننا وبينهم في هذا الوجود!