محمد العبودي: آخر الموسوعيين

فقدت الساحة الثقافية في هذا العام شخصية غير عادية إذ هو مثقف موسوعي قلّ نظيره، ولن تتكرر مثل هذه الشخصية بسهولة، وهو معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي رحمه الله الذي يعد مؤلفًا موسوعيًا يذكّرنا ببعض الشخصيات التراثية التي تركت رصيدًا كبيرًا في مجال التأليف مثل: الأصمعي، وابن الجوزي، والسيوطي، والثعالبي، وأبي الوفاء ابن عقيل، وغيرهم. وقد أسهمت مجموعة من العوامل في نجاح مشروعات العبودي في مجال التأليف إذ سخّر وقته للقراءة والبحث والجمع والتأليف، واستغل كل دقيقة من وقته في العمل الصارم الجاد، ومنحه الله ذاكرة قوية للغاية مكّنته من الاستيعاب والتذكّر حتى لو كانت القراءة بعيدة زمنيًا، ثم منحه الله عمرًا طويلاً قارب المئة سنة مع صحة في الجملة ممتازة أسعفته في استغلال الوقت للإنتاج والعطاء، فكان أن توافرت للمكتبة السعودية وللمكتبة العربية كذلك جملة من المؤلفات القيّمة ذات القيمة العالية، ورزقه الله بناشرين داعمين لمسيرته في التأليف مثل الأندية الأدبية وبعض الجهات الأخرى، ثم تخصصت دار الثلوثية بالرياض لصاحبها الدكتور محمد المشوح في إعادة طباعة النافد من كتبه، وفي طباعة الجديد من مؤلفاته، ويتوقع أن تطبع العديد من مخطوطاته التي لم يتمكن من دفعها للطباعة. وقد حرصت منذ مدة طويلة وأنا على مقاعد الدرس الجامعي على اقتناء مؤلفاته رحمه الله، ثم حصلت على مؤلفاته الجديدة إهداء عن طريق الصديق الدكتور محمد المشوّح، ولدي في المكتبة ركن خاص بمؤلفاته رحمه الله رحمة واسعة. والشيخ محمد العبودي شخصية لافتة بما تحمل من تجارب ثرية في السفر والترحال، وفي ممارسة الأعمال الإدارية والتربوية، مع رصيد ضخم من المؤلفات في حقول متعددة ومنها: الحقل الأدبي وخاصة أدب الرحلات، والحقل الجغرافي، والاهتمام بالتراث المحلي غير المدوّن، والعناية بالجوانب اللغوية، والتأريخ للأسر. وحظيت بعض مؤلفاته رحمه الله بجوائز؛ مما يعني علو كعبها ورفعة قيمتها. ومنها: جائزة كتاب العام بنادي الرياض الأدبي (الدورة الثالثة) عن كتابه «معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة»، وجائزة وزارة الثقافة والإعلام عن كتابه «معجم الملابس»، وجائزة الملك عبدالعزيز للكتاب عن كتابه «معجم وجه الأرض». واتخذ معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي رحمه الله جلسة تعقد في منزله بحي النزهة بالرياض بعد مغرب كل اثنين، وحضرت عدة جلسات؛ للاستفادة مما يُطرح فيها من معلومات وما يُثار فيها من نقاش؛ وبخاصة أن مديرها الدكتور محمد المشوّح يدير دفة الحديث باقتدار. وقد أُنجزت ثلاث رسائل جامعية عن رحلات الشيخ محمد العبودي، وهي: تثمين أدبي لرحلات الشيخ محمد العبودي الهندية لعطاء الرحمن أعظمي(١٤٣٥هـ)، وأدبية الرحلة عند العبودي: رحلاته إلى البرازيل لعمران الأحمد (١٤٣٧هـ)، ورحلات العبودي إلى غرب أفريقيا لشعيب الكنكاوي (١٤٤١هـ). وقد نشرتُ عام ١٤٤٠هـ/٢٠٢٠م بحثًا عنوانه «فن المقامة في الأدب السعودي المعاصر: دراسة تاريخية» (مجلة جامعة حائل، يناير٢٠٢٠م)، وأشرت فيه إلى ريادة الشيخ محمد العبودي في هذا الجنس إذ أصدر كتابين، وهما: المقامات الصحرواية، والمقامات البلدانية. وأنجز الزميل الدكتور فلاح بن مرشد العتيبي بحثًا محكّمًا عن بعض رحلات معالي الشيخ محمد العبودي رحمه الله، وعنوان البحث «الاستطراد السردي عند الرحالة السعودي محمد بن ناصر العبودي: كتاب من روسيا البيضاء إلى روسيا الحمراء نموذجًا»، وسينشر قريبًا بحول الله في مجلة الجامعة الإسلامية. وأرى أن إنتاجه الغزيز في مجالات عدة هي حقول مفتوحة لرسائل علمية جامعية في الماجستير والدكتوراه، وخاصة منجزه في مجال اللغة، وفي الجغرافيا، وفي معاجم الأسر، مع أحقية منجزه في مجال الرحلات برسائل أخرى كذلك. وقد كُرّم معالي الشيخ محمد العبودي رحمه الله في القاهرة عام ١٤٣٥هـ/٢٠١٤م، ونظمت حول أدبه ندوة شارك فيها بعض الباحثين من المملكة ومصر، وشاركت بالحضور مع مجموعة من الزملاء والأحبة. والآن وقد غادر العلاّمة الشيخ محمد العبودي رحمه الله دنيانا الفانية، فإن علينا مسؤولية إنصافه وتكريمه بتنظيم ندوات علمية كبرى عن تراثه، ويمكن أن تأخذ زمام المبادرة الجامعات السعودية، وخاصة جامعات الرياض والقصيم، وكذلك الأندية الأدبية، ورابطة العالم الإسلامي، ويمكن أن تكون ثلوثية الدكتور محمد المشوح داعمة ومحفزة ومساندة لأي جهة ترغب في ارتياد هذا المجال. رحم الله معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي رحمة واسعة، وهو حي بما خلّفه من إرث ثقافي متنوع وشامل زاد على مئتي مؤلف مطبوع في الرحلات واللغة والجغرافيا والبلدانيات والمعجمات المختلفة والمقامات وغيرها من العلوم. ‏وأقدم صادق العزاء والمواساة إلى أسرته الكريمة، وإلى الزميل الأستاذ إبراهيم الصقعوب، وإلى تلميذه الوفي الدكتور محمد بن عبدالله المشوّح صاحب دار الثلوثية التي أسهمت في طباعة معظم مؤلفاته ونشرها وتوزيعها. رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، والحمد لله على قضائه وقدره. * أستاذ الأدب والنقد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية