رمضاننا غير!

كل من عاصر أشهر رمضان المبارك الماضية، خاصة داخل مدينة الرياض، سيلاحظ بلا شك الفرق بين تلك المواسم ورمضان هذا العام، سواء من الناحية الأخلاقية أو النفسية أو الاقتصادية. لم يعد رمضان مجرد تكرار لنفس الطقوس الاجتماعية، بل شهد هذا العام تحولًا واضحًا يعكس تغيرًا في وعي المجتمع وسلوكياته. التحول الأخلاقي والنفسي: في الماضي، كانت بعض المظاهر الرمضانية لا تعكس حقيقة روح الشهر الكريم. على سبيل المثال، اشتهرت ظاهرة “اللثمة” الصباحية، حيث كان البعض يغطون وجوههم وكأنهم يبعثون رسالة غير منطوقة: “أنا صائم، لا تكلمني.” كما كان التوتر واضحًا في التعاملات اليومية؛ فقد يتحول أي خلاف بسيط إلى مشادة كلامية، خاصة عند الإشارات المرورية أو في بيئات العمل. وتصل حدة المشاحنات إلى ذروتها قبيل الإفطار، حتى كادت تصبح “ظاهرة رمضانية” مألوفة. أما اليوم، فالوضع مختلف تمامًا. من ملاحظتي الشخصية، بدا رمضان هذا العام أكثر هدوءًا وسكينة. اختفت “اللثمة” الشهيرة، التي كانت تُعد بمثابة “ترمومتر الأخلاق”، وربما يعود ذلك إلى تغير أنماط اللباس، حيث تخلى كثير من الرجال عن ارتداء غطاء الرأس كالشماغ، حتى في دور العبادة. لكن هل لهذا التغير علاقة بحالة النفسية للصائم؟ ربما يستطيع الأطباء النفسيون تقديم تفسير علمي لذلك، لكن من الواضح أن هناك وعيًا جديدًا ينعكس على سلوك الأفراد، فالتعاملات اليومية باتت أكثر هدوءًا، والأعصاب أقل توترًا. لم يعد الغضب والانفعال هو اللغة السائدة في الشوارع والأسواق، بل بدأنا نرى مزيدًا من التسامح وضبط النفس. التغيرات الاقتصادية: بين الوعي والاستهلاك: رمضان الماضي كان موسمًا اقتصاديًا حافلًا؛ كانت الأسواق والمطاعم، خاصة تلك التي تقدم المأكولات الرمضانية، تعج بالمتسوقين، لدرجة يصعب فيها إيجاد موطئ قدم. كانت الطوابير الطويلة أمام المطاعم والمخابز أمرًا مألوفًا، وكان كثيرون يهدرون وقتًا طويلًا في التسوق، وسط صخب الزبائن والازدحام الشديد. لكن هذا العام، يبدو أن هناك تحولًا واضحًا. قلة المتسوقين تعكس ارتفاع مستوى الوعي الاقتصادي لدى الناس. أصبح كثير من الأسر يعتمد على إعداد وجباتهم منزليًا بدلًا من اللجوء إلى المطاعم، وهو أمر لم يأتِ من فراغ، بل جاء كنتيجة طبيعية لعدة عوامل: 1. التوعية الإعلامية: الإعلام الجديد لعب دورًا بارزًا في كشف قضايا الغش والفساد في بعض المطاعم، مما عزز ثقة الأسر في الطعام المنزلي. 2. ارتفاع الأسعار: الظروف الاقتصادية جعلت كثيرًا من العائلات تعيد النظر في عاداتها الاستهلاكية، فأصبح الترشيد والتدبير هو السمة الغالبة. 3. الاهتمام بالصحة: مع تزايد الوعي الغذائي، باتت الأسر أكثر حرصًا على تحضير وجبات صحية، بعيدًا عن الأطعمة الدسمة والمعدة تجاريًا. هذه التغيرات لا تعني أن رمضان فقد نكهته، بل على العكس، أصبح أكثر اعتدالًا وتوازنًا، حيث باتت الأولويات واضحة، ولم يعد الاستهلاك المفرط هو العنوان الأبرز لهذا الشهر. “رمضاننا غير” بالفعل! ما بين التحولات النفسية، والتهذيب الأخلاقي، والوعي الاقتصادي، يمكن القول إن رمضان هذا العام مختلف بالفعل. لم يعد مجرد موسم للصيام والإفطار، بل أصبح فرصة للتأمل في التغيرات التي طرأت على المجتمع، والتي تعكس نضجًا ووعيًا متزايدًا. قد لا يكون هذا التغيير شاملًا لكل فرد، لكنه مؤشر إيجابي على أن رمضان اليوم أكثر انسجامًا مع روحه الحقيقية، حيث الطمأنينة، وضبط النفس، والاستهلاك المعتدل. ويبقى السؤال: هل نحن أمام بداية لمرحلة جديدة من الوعي الرمضاني، أم أن هذه التحولات مجرد موجة عابرة؟ الأيام القادمة ستكشف لنا الإجابة.