جوانب من حياة الملك المؤسس في رمضان..

صيامٌ وجهاد في سبيل التوحيد .

“إننا نبذل النفس والنفيس في سبيل راحة هذه البلاد وحمايتها من عبث العابثين، ولنا الفخر العظيم في ذلك”. من أقوال الملك المؤسس عبدالعزيز (رحمه الله) ------ لم تكن حياة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود (طيّب الله ثراه) مسيرةً تقليدية، بل كانت ملحمةً من الصبر والجهاد والإصرار على تحقيق الحلم الكبير؛ توحيد المملكة تحت راية التوحيد، ومن بين المحطات الفاصلة في مسيرته، أن شهر رمضان كان شاهدًا على تضحياته الكبرى، حيث اجتمع فيه الصيام والجهاد والصبر على مشاق الطريق. بزوغ الحلم يُعدّ خروج الملك عبدالعزيز من الرياض عام 1308هـ (1891م) بصحبة والده الإمام عبدالرحمن (آخر حكام الدولة السعودية الثانية) وأفراد أسرته أحد أصعب الأحداث التي مرَّ بها في حياته، إذ غادر وهو ما بين الثانية عشرة والخامسة عشرة من عمره، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة من الترحال والانتظار المشوب بالتطلع للعودة، كانت واحة يبرين في الأحساء أولى المحطات التي احتضنت العائلة، قبل أن يتجهوا إلى قطر ثم إلى البحرين ثم إلى الكويت، حيث استقروا هناك لعدة سنوات، وخلال فترة إقامته في الكويت، عُرف عن الملك عبدالعزيز شغفه بالتعلم والتدريب العسكري، حيث كان يشارك في المناورات والتدريبات، مما أكسبه خبرات عسكرية مبكرة. كما شارك في معركة الصريف عام 1318هـ (1901م) بين إمارة الكويت وإمارة جبل شمر، والتي انتهت لصالح ابن الرشيد، مما زاد من تصميمه على استعادة ملك أجداده، فالرياض لم تبرح قلب الملك عبدالعزيز، فظل حلم العودة يتأجج داخله، متقدًا بالعزم والإرادة، حتى حان موعد انطلاقه في رحلة استردادها، متحملاً قسوة المسافات الشاسعة وصعوبة الطبيعة الصحراوية في سبيل هدفه الأسمى. صيام وجهاد حين بلغ العشرين من عمره، قاد الملك عبدالعزيز كوكبةً من رجاله بلغ عددهم 40 فارسًا، متجهين من الكويت نحو الرياض في رحلة بطولية عبر جوف الصحراء اللاهبة، كان شهر رمضان مرافقًا لهذه المسيرة الشاقة، حيث صام عبدالعزيز ورجاله في واحة يبرين بالأحساء، واحتفلوا بعيد الفطر في موقع “أبو جفان”، في مشهد يجسد تداخل الإيمان مع الجهاد في سبيل تحقيق الوحدة، وكان لشهر رمضان أثر بالغ في مسيرة الملك عبدالعزيز ورجاله الأربعين الذين رافقوه في رحلة استعادة الرياض، إذ امتزجت روحانيات الشهر الكريم بروح الجهاد والتضحية، ما منحهم عزيمة لا تلين في مواجهة الصعوبات، وقد تجلت هذه الروح الإيمانية بوضوح خلال مسيرتهم الشاقة عبر الصحراء، حيث كان الصيام عاملاً مؤثرًا في تعزيز إرادتهم، وربطهم بالقيم الإسلامية التي تدعو إلى الصبر والثبات والاعتماد على الله. وقد ذكر المستشرق الفرنسي “موريس جارنو” في كتابه “تحقيق حول ابن سعود”، أن “نجاح الملك عبدالعزيز في توحيد الجزيرة العربية لم يكن بسبب القوة والسيف فقط، بل لأنه سكب في أعمال الأمة الناشئة أقوى عوامل التراص والتماسك، وهو التقيد الشديد بأحكام القرآن”، إذ لم يكن نجاح الملك عبدالعزيز في استرداد الرياض وليد المصادفة، بل كان ثمرة تخطيط استراتيجي دقيق. فقد اتخذ من واحة يبرين نقطة انطلاق لتنفيذ خطته العسكرية، نظرًا لموقعها المحاذي لرمال الربع الخالي من الشمال، وعلى بعد 160 ميلًا جنوب الأحساء، و175 ميلاً شرق الرياض، مرّ في طريقه بقرية حرض التابعة للأحساء، مستكشفًا تضاريس المنطقة ومتأهبًا للحظة الحسم. وحين جاء اليوم الموعود، استطاع الملك عبدالعزيز (رحمه الله) أن يطوي صفحة الماضي في الرياض ويفتح باب المستقبل، حيث بايعه أهالي المدينة عام 1320هـ أميرًا على نجد وإمامًا لأهلها، عقب صلاة الجمعة في ساحة المسجد الكبير، وكانت هذه البيعة إيذانًا ببداية عهد جديد من الاستقرار السياسي في نجد، لتتقدم الرياض بخطوات ثابتة نحو النمو والازدهار. استلهام دروس النصر كان الملك عبدالعزيز، منذ صغره، متشبّعًا بروح التقوى والاعتماد على الله، مستلهمًا من الشهر الفضيل روح الجهاد والإخلاص في سبيل تحقيق هدفه الأسمى، وقد كان (رحمه الله) ملمًا بتاريخ الفتوحات الإسلامية التي جرت في رمضان، مثل غزوة بدر الكبرى وفتح مكة، وقد استلهم منها العبر والعزيمة، مؤمنًا بأن النصر ليس بعدد الرجال أو العتاد، وإنما بالإيمان والعزيمة والإخلاص. وقد شكّل هذا الإيمان قوة دافعة له ولجنوده، حتى في أشد لحظات الجوع والعطش، حين كانوا يستذكرون كيف صبر النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه في الظروف القاسية وانتصروا في النهاية. ومع حلول رمضان، ازداد يقينه بأن النصر سيكون حليفه، مستعينًا بالصيام والعبادة، وموقنًا بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فكان هذا الشهر محطة إيمانية يتزود فيها وجنوده بالقوة الروحية التي أعانتهم على تحمل قسوة الصحراء، واضعين ثقتهم في أن الله سينصرهم كما نصر رسوله وأصحابه في غزواتهم التي وقعت في رمضان، ولم يكن الصيام مجرد عبادة يؤديها الملك عبدالعزيز ورجاله، بل كان تحديًا جسديًا وروحيًا زادهم قوة وصلابة، خاصة أثناء مسيرتهم الشاقة عبر الصحراء إلى واحة يبرين، حيث صاموا وسط ظروف قاسية، مستشعرين في ذلك امتدادًا لسير المجاهدين الأوائل. ولأن الصيام يعوّد الإنسان على التحمل وكبح الشهوات، فقد كان ذلك عاملاً حاسمًا في انضباطهم وقدرتهم على التحمل، إذ التزموا بنهج صارم من التقشف، يقتاتون على التمر والماء القليل، ما منحهم شعورًا بالتكاتف والإخاء، وعزز لديهم الإحساس بالهدف المشترك الذي جمعهم تحت راية قائدهم. لم يكن شهر رمضان في حياة الملك عبدالعزيز زمنًا للركون والراحة، بل كان ميدانًا للعمل والجهاد في سبيل الله وتوحيد البلاد، ولم تكن استعادة الرياض ـ التي أصبحت حجر الأساس في بناء الدولة السعودية الحديثة ـ إلا بداية لمسيرة طويلة من التوحيد، حيث شهدت سنوات رمضان اللاحقة حملات عسكرية لتثبيت أركان الدولة، إلى جانب لقاءات دبلوماسية حاسمة جمعته بملوك العراق والأردن والبحرين لترسيخ علاقات المملكة الخارجية، وفي رمضان من عام 1934م، أدار الملك عبدالعزيز مفاوضات مراجعة معاهدة الطائف مع اليمن، التي أنهت الحرب بين البلدين وحددت الحدود بينهما، ليؤكد من جديد أن سيفه كان مسلطًا من أجل الوحدة، كما كان قلمه ماضيًا في إحلال السلم والاستقرار. لم يقتصر جهده في رمضان على السياسة والحروب، بل امتد ليضع اللبنات الأولى في صروح التعليم والإعلام، حيث أسس في الأول من رمضان 1344هـ مديرية المعارف، فاتحًا بذلك أبواب التعليم الحديث أمام أبناء المملكة. وبعدها بأربعة وعشرين عامًا، في 23 رمضان 1368هـ، أصدر مرسومًا ملكيًا لتأسيس الإذاعة السعودية، ليكون صوت المملكة حاضرًا في كل بيت، وهكذا ظل رمضان في حياة الملك عبدالعزيز شهر الانتصارات والتحولات الكبرى، حيث اقترنت روحانياته بالجهاد والعمل، ليترك بصمته الخالدة في صفحات التاريخ. زهد القائد وعدله كما عُرف الملك عبدالعزيز بإنسانيته العميقة، فكان قريبًا من الناس، يرعى الفقراء والمحتاجين، ويسعى لإقامة العدل بينهم، مرددًا أن الرعية عنده سواء، لا فرق بينهم إلا بالتقوى. وقد وصفه أمين الريحاني في كتابه “ملوك العرب” قائلاً: “هو رجل قبل كل شيء”. وهي عبارة تلخص جوهر شخصيته، إذ كان إنسانًا قبل أن يكون ملكًا، يسوس شعبه بروح الأب الحاني، ويعاملهم بالعدل والإنصاف. لم يكن الملك عبدالعزيز مجرد فارس مغوار، بل كان أيضًا قائدًا عادلاً وزاهدًا، لا تمنعه السلطة من العيش قريبًا من شعبه، واعتاد (رحمه الله) أن يخرج قبل غروب الشمس بنصف ساعة إلى بستان ابنه، الذي يبعد ثلاثة كيلومترات عن قصره، وحين يسمع الناس صوت سيارته، يتوافدون إليه بالدعوات الطيبة: “الله يطول عمرك يا عبدالعزيز”، “الله يحسن إليك يا عبدالعزيز”، وكان يرد عليهم بكرمه المعهود، فيمنح مما أنعم الله عليه، لكن ذلك لم يكن عطاءً بلا حساب، فقد رأى شابًا قوي البنية يطلب العطاء، فسأله عن حاله، وحين علم أنه لا يعاني من حاجة، قال له بحكمة الأب والقائد: “أنت شاب قوي، اذهب إلى الأمير منصور، فالتحق بالجيش واغتنم شبابك”. رؤية ملك وإرث قائد لم يكن الملك عبدالعزيز قائدًا عابرًا في صفحات التاريخ، بل كان رجل دولة استثنائيًا أدرك بحدسه السياسي العميق أن بناء الأوطان لا يقتصر على ميادين القتال، بل يمتد إلى ساحات التنمية والتحديث، يصفه الزعيم الهندي جواهر لال نهرو في كتابه “رسائل إلى ابنتي” قائلاً: “أثبت ابن سعود أنه أذكى من الحسين، فقد استطاع أن يقنع الإنجليز بالاعتراف باستقلاله، وأن يبقى على الحياد. وبعد أن نجح ابن سعود جندياً ومحارباً، كرّس كل جهوده لبناء بلاده على أسس عصرية حديثة، لقد أراد القفز بها من حياة القبيلة إلى حياة العصر الحديث. ويظهر أن ابن سعود نجح في ذلك إلى حد كبير، وأثبت أنه رجل سياسي قدير بعيد النظر”، أما المستشرق برنارد لويس، فيؤكد أن إدراك الملك عبدالعزيز لمتغيرات العالم جعله يؤسس دولة قائمة على التنظيم والقوة، فيقول: “خلفية الملك عبدالعزيز السياسية، جعلته يفهم أن الدول الكبيرة القوية المنظمة هي وحدها التي ستبقى بعد الحرب، ولذلك بدأ بتغيير الأسس والتطبيقات في المملكة، واكتسب صورة من يبنون الإمبراطوريات بسيوفهم”. أما الرحالة البريطاني فيلبي، الذي عايش الملك عبدالعزيز منذ شبابه، فقد رسم صورة متكاملة لرجل جمع بين الحزم والتواضع، فقال عنه: “جندي ناجح، ومصلح أصيل، تقي كل التقى، صريح حازم، ذكي متواضع. ولا أعلم أن في العالم حاكماً غيره تتحدث معه رعيته بمثل الحرية التي تتحدث بها رعية عبدالعزيز معه، وذلك إلى جانب ما تكن له من إكبار وإخلاص عظيمين”، وعندما نقرأ ما كتبه خير الدين الزركلي الذي عاصر الملك المؤسس، وكتب عنه مؤلفًا خالدًا، فيقول: “الملك عبدالعزيز اشتهر بالجود في عهدي: ضيق ذات اليد، وإقبال دنيا النفط على خزائنه، كان يعطي ويتلذذ بالعطاء، وأخباره في هذا كثيرة. أنشأ الدولة، ودوّخ أعداءه ومنافسيه، وأدخل في بلاده أنواع الإصلاح، واشتهر بما انفرد به من الكرم. وذلك كله قبل أن يدر النفط فيضه، وقبل أن يكون له ولمملكته من الثروة ما ينهض به وبأعماله. ولما تدفق النفط أكمل ما بدأ”، بهذه الشهادات وغيرها، يبقى الملك عبدالعزيز نموذجًا فريدًا لقائد صنع مجده بسيفه، ورسّخ حكمه بعدله، وأرسى دعائم دولة أضحت نموذجًا للاستقرار والنماء في قلب العالم العربي والإسلامي. ختامٌ مشرّف لم يكن الملك عبدالعزيز مجرد حاكم، بل كان قائدًا ملهمًا يحمل بين جنبيه روح الفارس وحكمة المؤسس، قال يومًا: “لقد ملكتُ هذه البلاد التي هي تحت سلطتي بالله ثم بالشيمة العربية، وكل فرد من شعبي هو جندي وشرطي، وأنا أسر وإياهم كفرد واحد، لا أفضل نفسي عليهم ولا أتبع في حكمهم غير ما هو صالح لهم حسبما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم”، بهذه الكلمات رسم نهجه في الحكم، مؤكدًا أن قوة الدولة لا تقوم إلا على العدل والتلاحم بين الحاكم وشعبه، فكان نموذجًا فريدًا في القيادة، يشارك رجاله في الصعاب، ويعيش هموم وطنه لحظة بلحظة، حتى أرسى دعائم دولة حديثة توحدت تحت راية التوحيد، وظلت قيمها قائمة على الإيمان، الشجاعة، والعدل. في محرم عام 1373هـ، وبعد رحلة حافلة بالجهاد والتوحيد والبناء، اشتد المرض على الملك عبدالعزيز أثناء إقامته في الطائف، حتى فاضت روحه إلى بارئها في فجر الثاني من ربيع الأول من العام نفسه (9 نوفمبر 1953م)، ليرحل مؤسس الدولة، لكنه ترك إرثًا خالدًا، تتفيأ الأجيال القادمة ظلاله، وتنعم بحياة آمنة مستقرة في دولة مترامية الأطراف، قامت على أسس التوحيد والعدل، وقد دُفِنَ جثمانه (رحمه الله) في مقبرة العود بالرياض، ليبقى اسمه حاضرًا في ذاكرة التاريخ، ورمضان شاهدًا على صيامه وصبره وجهاده، في سبيل توحيد أرض لم تكن مجرد وطن، بل رسالة خالدة للعدالة والإيمان.