في كتاب « أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» لمحمد رضا نصر الله..
قباني، إدريس والجواهري في تاريخ الإعلام السعودي.

يكتب الدكتور نزار عبيد مدني، وزير الدولة السعودية للشؤون الخارجية سابقًا في مقدمة الكتاب: « علمتُ من سيرته أن طريقه نحو الشهرة والنجومية لم يكن ممهدًا مفروشًا بالورود والرياحين، ولا خاليًا من العثرات والعقبات والكبوات، ولكنه تمكن بمخزونه الثري من الصبر والإرادة والعزيمة من تجاوز الصعاب إلى أن غدا قامة من قامات الفكر والثقافة في المملكة، ومن جهاذبة الإعلام المكتوب والمرئي، ومن الذين حفروا في الصخر حتى أصبح شخصية مرموقة يُشار إليها بالبنان في وطنه وفي خارج وطنه « ونحن كقراء نلمس هذه السيرة الجسورة من خلال الشخوص والأحداث وتأريخها الزمني المتسلسل بكتابة نوعية تؤرخ لفصلٍ مهمٍ في تاريخ الإعلام السعودي. محمد رضا نصر الله، الأديب والإعلامي المخضرم يواصل دفع السفن بغزارة في كتابه الصادر حديثًا عن دار سطور العراقية بعنوان « أصوات في الأدب والفكر والاجتماع « في 449 صفحة، واضعًا القارئ العربي قِبالة سياحة جديدة لاتقل ثراءً وغزارة عن سابقتها « حوارات القرن « بأجزائه الثلاثة عام 2022، فكعادته لا ينفك في الكثير من لقاءاته عن مقاربة القومية العربية آنذاك حيث الروح الشعرية في أوج عظمتها دفاعًا عن العروبة وقضيتها التاريخية، ولصعوبة القبض على مساراته الثلاثة - الأدب والاجتماع والفكر- جُملةً واحدة، أقصد في هذه المقالة ناحية الأدب وأختار ثلاثة أعلام عربية بارزة. تبدأ الرحلة من صيف 1971م، شاب في السابعة عشر من العمر، يجلس بين قلات التمر وأقفاص الدجاج ومزيج بشريّ من فلاحي القطيف و موظفي ارامكو على متن سفينة تُبحر من ميناء الخبر بالمنطقة الشرقية إلى المنامة بالبحرين. يذكر عن لحظة الوصول الأولى: « لقد وجدتني وكأنني في القطيف! « فلا شيء مغاير يستدعي التفاتته غير دور الفنون والثقافة سينما أوال، نادي العروبة، المكتبات وأسرة الأدباء والكتاب وأدباء مثل علوي الهاشمي، علي عبدالله خليفة، قاسم حداد، محمد عبدالملك ومحمد الماجد. من هنا تبدى أصداء الذاكرة ترتد واحدًا تلو الآخر، فيبدأ بسردٍ تاريخي حميم عن الشاعر الراحل إبراهيم العريّض من متجره بشارع الشيخ عبدالله وإصداره ديوانه الأول « الذكرى « 1350هـ، الذي يتمازج فيه عبقٌ من أساطير الحضارة الهندية ورومانسية الشعراء الإنجليز والعرب، متأثرًا برباعيات الفرس، ليأتي شعره حافلًا باللغة والمعنى. «بين عكاز نزار قباني ونظارة طه حسين» يسترسل نصر الله موثقًا وجهته - بعد هزيمة 1967 - إلى القاهرة للقاء نخبة الأدب المصري أمثال توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، يوسف ادريس وعبدالرحمن الشرقاوي، وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل. مؤرخًا علاقته بالشاعر العربي الشهير نزار قباني منذ 1970 بمكتبة الحاج محمد مدبولي في القاهرة، إبان إشارة الأخير لمقالة كتبها نصر الله في جريدة الرياض حول أحد دوواينه، ويُشير في كتابه إلى شخصية قباني النرجسية وفقًا لما قدمه د. خريستو نجم في أطروحته « علم النفس الأدبية « فيما يستعرض حضوره للاحتفال العالمي الذي أقامته الدولة المصرية بجامعة الدول العربية 26-28 فبراير 1975 في ذكرى رحيل عميد الأدب طه حسين واستماعه لقصيدة قباني في العميد، فيما يُعبر عن رأيه بصراحة مطلقة في شعر سعيد عقل الفريد بتراكيبه وبلاغته غير أنه لم يستحوذ عناية النخبة والجماهير لنرجسية الشاعر الطاغية وافتعاله الأداء! مما جعل نصر الله يعتني بما أشار له كبار المستشرقين من الإنجليز والأوروبيون وغيرهم من الأدباء العرب. ويفشي في أوراقه النزارية عن لحظات خاصة وحميمية مثل زيارته لقباني في لندن بعد خروجه من المستشفى إثر غيبوبة انهكت قواه الجسدية ناهيك عن نفسية منطفئة جراء عدم قدرة الشاعر على مجاراة الشعر و سحب مجاديفه، غير أن نصر الله بذكائه النبيل استنهض روح الحياة بإلقائه « ضوء عينيك أم هما نجمتان « لترتوي عروق الشاعر وتبتهج وجنتاه بالعناق وتنتهي اللحظة المعجزة! « علاقتي بيوسف إدريس» يقول « تجلت شجاعة يوسف إدريس ومواجهاته في اندلاع فني مستمر عبر مقالاته وقصصه مصطدمًا برموز الفترة الساداتية ممن لونوا مصر اقتصاديًا وثقافيًا «. ويشير إلى معالجته لكثير من قضايا المجتمع والعصر آنذاك، غير أن نصر الله يعترف بتوسع فجوة العلاقة بينه وبين إدريس كلما هوى من الأخير موقفًا صادمًا، مما أدى إلى غضبٍ ملتهب ليقول نصر الله: « لا أنسى أنني سللت عليه سيفًا من ألفاظي القاسية الملتهبة بلندن في شقة الأديب السياسي المصري أحمد عباس صالح الذي فرّ إلى العراق «، فيما تلقى إدريس نصائح توجهه للكتابة حول ما يدور في أفقه الطبي والصحي لإفادة الناس دون الوقوع في السياسة، ليأتي رد الأديب موضوعيًا وتبريريًا لحالة الأمة العربية آنذاك لكنه يعترف بأن الريح السياسية أثرت على تاريخه الإبداعي باعتباره مواطنًا مصريًا مؤمنًا بالعروبة أولًا. وأمام هذه الأمواج والمعارك يعترف إدريس بأن هجوم نصر الله ضده من أشد وأقوى الهجمات التي تلقاها غير أنه يُبقي على أواصر العلاقة مشدودة بالمحبة والأخوة، مؤكدًا على ذلك بدعوته لنصر الله على مساء يقضيناه مع عائلة الأديب لكن الأخير أبدى جفاء الصحاري وعناد الجبال الرواسي، الذي عاد عليه لاحقًا بالندم عند سماع نشرة أخبار الخميس من إذاعة لندن تنعى الأديب الكبير الذي عُرف بالتواضع النبيل والعبقرية الأدبية والفنية. « مالم تنقلهُ الكاميرا في حديث الجواهري» يُثير فضولك بهذا العنوان ليقدم ثلاثة مقالات متعلقة بالشاعر محمد مهدي الجواهري. يتحدث عما جرى بعد لقائه التلفزيوني ودعوة الشاعر له في اليوم التالي، قائلًا: « ومن فوره انطلق يُبدي رغبة شديدة في زيارة المملكة، مُعبرًا أنها تلح عليه منذ قابل نائب الملك فيصل في زيارته إلى بغداد في سنوات الثلاثينيات الميلادية « ويدور الحديث حول مناورة الشاعر لملك العراق آنذاك فيصل الأول بقصيدة في مدح الأمير السعودي فيصل ووالده الملك عبدالعزيز بن سعود، مؤكدًا على ذلك ومُضيفًا بأنها محض إعجاب وتقدير. وبالفعل بعد ما يقارب العام قام الجواهري بزيارة تاريخية للمملكة إثر الحدث الثقافي الأبرز في حينه وهو مهرجان الجنادرية التراثي الثقافي. تلا ذلك غضب عراقي يكشفه نصر الله في كتابه بقوله: « مما أدى إلى نزع الجنسية العراقية من أكبر رمز يلتقي عنده وعليه العراقيون بمختلف مشاربهم « صفحة 321