ديستويفسكي في «الليالي البيضاء»..

هل يصف بطله ونفسه ويصفني أيضاً.

ألا يحدث أحيانًا أن تفتح صفحات رواية ما بشكل عشوائي فتلقاها وقد صادفت مواطن الجروح من روحك ، وكأنها تحسست بأصابع خفية الشقوق في جدار قلبك ،التصدعات المنتشرة ،الاختناقات المتسللة تعبث هنا وهناك تقتات الهواء الذي تتنفسه ، وفجأة إذا ببطل بعيد منسي، كلمات كُتبت قبل عقود من حضورك الدنيا ،تصف بدقة مفزعة كل ذاك الذي يجول في صدرك، المختبئ عميقًا عميقًا في سويداء روحك ، الأشياء التي حرصت على دفنها بعيدًا عن الأعين الفضولية ، وها هو ذا كاتب قضى نحبه يفضح سرك عاليًا بين الملأ ! كلهم تركوني، كلهم رحلوا إلى الضواحي، وصارت بطرسبرغ صحراء مهجورة، الكل يعبر بي ، العربات الثقيلة المحملة بشتى أنواع الأثاث والأرائك، الزوجات المحتضنات أطفالهن، الرجال ذوي الشوارب الراقية والسيجار الفاخر ، كلهم عبر بي ، ولا أحد أشار إلي ! هكذا أجدني دون دعوة على لسان بطل ديستوفسكي في لياليه البيضاء ، كطبيب يشخص بحرفية ومهنية عالية موضع الداء مني ! يعريني في شخص بطله ،يقول للجمهور انظروا : هي ذي التي تحس الحياة تنساب من حولها والعمر ينسلخ عن جلدها ، والكل يمضي ، فيما لا تدري هي طريقًا لمضيّها ! إن في بعض الكلمات لسحرًا ، بعض الكلمات دخان، أبدي التموّه ، أبدي الحضور ، كلمات تصف هذا الذي يعيش ويتنفس اليوم ، وذاك الذي كان قد عاش وقد تنفس وهو اليوم عظامًا ينخرها الدود تحت الثرى ! نعم ديستويفسكي يصف نفسه ، يصف بطله الذي هو هو نفسه ، لكنه أيضًا يصفني ، بدقة مفزعة ، بتفاصيل تشريحية لا غبار عليها ، يصفني ويصف الملايين مثلنا ، ملايين تعيش وملايين قضت نحبها . كان البطل يخشى الناس ، يخشى الوجوه الجديدة، يخشى المارة الذين يعبرون في جماعة يتضاحكون ويتبادلون مزاحًا وأحاديث ، يفكر كيف أنه لن يكون قط مثلهم ،لن تخرج الكلمات من فمه بهذه السهولة ،بتلك البساطة الجذابة ، وأنه يحتاج دهرًا وتنحنحًا وتفكيرًا جاد وتصفيةَ حلقه قبل أن تخرج من حنجرته كلمة واحدة !  في يوم مشمس يلتقيها، السمراء الجذابة التي تصغي إليه ، تجلس بجواره كفراشة حطت على زهرة ، ترتسم ابتسامة رقيقة على ثغرها، تميل برأسها المغطى بقبعة ربيعية خلابة ، وتصغي ، فقط تصغي ، حينها تنفتح السدود ، وينطلق اللسان من عقاله، ويظهر على الأثر الرجل الذي يختبئ في هذا الجسد الضامر وهذا الوجه الشاحب وهذه الثياب البسيطة ، ويتألق المعدن النفيس المخبوء، وتسحرها كلماته. في الحقيقة ، لم تكن هناك سمراء،ملاكًا يتفهم ولا يستبق الأحكام، لذا اضطر ديستويفسكي إلى خلقها ، وهكذا صارت هي نحن، نحن الشابة الجميلة التي قررت عن سماحة نفس الإصغاء إلى هذا الشاب المجهول الخجول المتردد ، هذا الذي عاش قبل عشرات السنين قبلنا، هذا الذي أصبح أديب عصره وأشهر كاتب روسي وُجد على الإطلاق ، هذا الذي صار مدرسة في علم النفس ، وقِبلة كل الوحيدين الحزانى . في كلماته يصف ديستويفسكي عالم الخيال الذي يهرب إلى صروحه غالبًا كل الانطوائيين، المملكة المهيبة الشامخة التي تولد قصرًا قصرًا من عدم في لحظة، و إلى العدم أيضًا تنهدم في لحظة ! كيف من شأن الحياة فيها أن تنسيك الدنيا بمن عليها ، كيف تجذبك إلى مساكنها لتحيا كل الصخب بأدق تفاصيله ثم تفتح عينيك فجأة ليفزعك الهدوء والسكون من حولك ! أين الأشباح التي كانت؟ أين الخرافات التي امتدّت عروشها؟ أين الأمجاد التي خُلقت؟!  “ ويتخلق هذا العالم الإسطوري،بكل سهولة، وبشكل طبيعي جدًا ، كما لو أن كل ذلك لم يكن وهمًا ! حقًا أنا على استعداد للاعتقاد أحيانًا أن كل هذه الحياة ليس هيجان حواس ولا سرابًا ولا خداع خيال، ولكنها شيء حقيقي ، فعلي ، قائم وموجود “ . “وعبثًا يبحث الحالم في رماد أحلامه القديمة ، إنه يبحث في هذا الرماد على الأقل عن شرارة لينفخ فيها ، عن نار جديدة ليدفئ قلبه البارد،ما يؤثر في الروح، ما يجعل الدم يغلي ،ما يستدر الدمع من العيون ويخدع بصورة رائعة !”  ذلك لأن الأحلام تظل أحلامًا ، والأوهام مهما بدت حقيقية مهما تقمصت الحقيقة وتموهت بصورها خداعًا لا يمكن أن تكون في نهاية الطريق إلا خيالًا ، ولأن السنون تمضي وشجرة العمر تذبل مساقطة أوراقها ، فلا يمكنك إلا أن تسعى لنبذها ، هذه العوالم التي بنت أعشاشها في رأسك ، وشربت من ماء روحك ، واقتاتت على ذكريات وأنفاسك الحقيقية ، لا يمكن لها آخرًا أن تذرك إلا عظامًا تذروها الرياح ! ولا يمكن أن يكون لها مصيرٌ خلا الإنتهاء والاحتضار في هدوء. هكذا مضت السمراء في طريقها ، آخذة معها كل الوعود التي قطعتها ، كل النذور التي أقسمت على الوفاء بها ، كل الأحلام التي مضت تنسجها برفقة بطلنا الشاب ، وكأنها هي الأخرى كانت خيالًا ، ظلًا عابرًا، ترك أثارة من ورائه لكنه انسحب برغم ذلك بعد حين! ويثوب الشاب آيبًا إلى حجرته ، تائهًا في ممالكه، سارحًا في ملكوت أفكاره ، تتبدى دونه خمس عشرة سنة أخرى تمرّ به عبابًا ، ولا يكون بعدها إلا كما كان قبلها ، فقط الهرم وخطوط الوجه المتغضن هما ما يختلفان!