مباراة

هذه مباراة منغلقة على نفسها، تحمل من الألوان ما يزاحم بعضه بعضا، يمكن أن تشاهدها وعيناك مغمضتان، وهي: قال الصمصام بن هبيرة المقدوني: وَفَدَ على سعيد بن الحارث جماعة من بلاد ما بين النهرين، كانوا مختلفين في طبيعة النوم: هل هو (موت صغير) أم هو وكر للأحلام، وقادهم اختلافهم للمجيء إلى ابن الحارث ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه. تقدم كبير القائلين بأن النوم موت صغير، مستدلا على ذلك بأن النائم يفقد الإحساس، وهذا من صفات الميّت. فسأله ابن الحارث أنت في حالة الذهول تفقد الإحساس، فهل أنت حينذاك حي أم ميت؟ فبهت من وقع السؤال عليه، ولم يحر جوابا. أما كبير القائلين بأن النوم وكر للأحلام، فقد شمّر عن ساعديه، وبقوة اندفاع السيل قال: والذي نفسي بيده، لو كان اليقين ناطقا لقال بأن الحق معي. ولكن ماذا تقول أنت يا ابن الحارث؟ ابن الحارث لم يعرف في حياته يقينا مثل يقين هذا الرجل، فانشغل ذهنه بالتفكير في (اليقين) نفسه، وكيفية انغراسه في قلب فرد ما وعدمه عند آخر، ناسيا الوفد وما جاء به. اليقين هو ذلك الاعتقاد الذي لا شك فيه، وهو نوعان: يقين نفسي، ويقين معرفي. أما النفسي فهو الحاصل عفويا أو عن طريق التقليد، وهذا لا يمتلك الحصانة من الشك، أما المعرفي فهو المطابق للواقع. ولكن رؤية الواقع ليست واحدة عند جميع الناس، فكل فرد يرى الواقع بصورة مختلفة اختلافا ما عن غيره. ومن هنا يتسرب الشك إلى هذا النوع من اليقين. هناك تعبير(عين اليقين) الذي جاء في القرآن الكريم، والذي اقتبسه ابن المعتز:(أغنى العيان عن السماع وما يرى فهو اليقين وما يقال تخيّل) وهو يعني (المشاهدة) ولكن المشاهدة، أي الرؤية البصرية لا يمكن أن تكون في الآراء، وهذا هو مأزق اليقين. هناك من يرى أن اليقين حجاب يحول دون معرفة الحقيقة. وحين نتأمل هذا الرأي بعمق نراه صائبا، ونرى أن التاريخ يثبته بصورة قطعية، فكم من الآراء اكتشف العلم زيفها، وكانت في نطاق ما يسمى (مما لا شك فيه) عند جميع البشر. أنت ماذا ترى؟ هل ترى أننا لم نصل إلى مرحلة اليقين الفلسفي الذي لا يحصل إلا بالمشاهدة؟ أم أن اليقين تابع لمستوى المعرفة في كل عصر؟ أم أنه كم قال ابن الرومي: (غير أن اليقين أضحى مريضا مرضا باطنا شديد الخفاء) .