قراءة في رواية خليل الفزيع الجديدة ( سراديب الليالي الحالمة)..
تأصيل اجتماعي وثراء معرفي وتوجيه تربوي وتعدد في الأصوات وجماليات التشكيل.

رواية زاخرة بالرؤى و الجماليات ، سلك كاتبها فيها نهج التعدّديّة في الرواة ، وتميّزت بثراء معرفي في حقول متعدّدة و مواقف واضحة من قضايا ذات أهمية خاصة تحتاج إلى مساحة فسيحة لمقاربتها ؛ ولعلى أفلح في تناول بعضها في هذه المقالة ؛ فاللافت في هذه الرواية ظواهر عدة : أولها – العنوان الذي يتكوّن من لفظ مضاف ( السراديب) مفردة ذات إيحاءات متعددة : د ينية مذهبيّة تتعلق بالإمام الغائب في السرداب ، و كذلك توحي بالخفايا والأسرار و اللاوعي فضلاً عن أن بنيتها الصرفية بوصفها (صيغة منتهى الجموع) تدل على التكثير وإيقاعها الصوتي عبر المد المتواصل في الألف و الياء يوحي بالعمق و الغموض ، و المضاف إليه (الليالي) يماثل المضاف في التكثير و المدّ والغموض ، وهي مفردة تتناغم مع ما سبقها فالليالي تؤكد دلالتين تبدوان منسجمتين تارة و متضادين تارة أخرى ، دلالة الظلمة والعتمة والسهر و المتعة ، كذلك لفظ (الحالمة) الصفة التي توصف بها الليالي توحي بالرومانسية والجمال . ثانياً – تُصوّر عالمين مختلفين : محافظ يتبدّى في الحفاظ على الشعائر الدينية و المحافظة عليها وعالم سرّي يحيل إلى الخطايا و التحرّر من التقاليد و القِيم ؛ فنحن أمام سلوك ظاهر و آخر باطن يفضي - في نهاية المطاف - إلى كارثة مُحقّقة و فضيحة مدويّة . ثالثا – الرواية تنهض على ثنائيّة بيئيّة أساسيّة ذات دلالة اجتماعية اقتصادية ثقافية : البيئة البحرية (ذات نمط معيشي يقوم على صيد اللؤلؤ ، وله قاموسه الشعبي و المهني الخاص) و البيئة الصحراوية (ومجتمعها المتميز في أساليب العيش و التقاليد) فنحن أمام فضائين : لكل واحدٍ منهما خصوصيته فيما يتعلق بمصادر الرزق و سبل الحياة وأساليب العيش : بيئة رعويّة وأخرى تعتمد على استخراج اللؤلؤ من أعماق البحر ، وهاتان البيئتان انبعثتا في أعمال عددِ من الروائيين الذين استنهضوا بعض ملامح الهويّة الاجتماعية الأصيلة ، وعمدوا إلى تصويرها مُستلّةً من ذاكرة تاريخيّة أصيلة يَقِظة . واختيار الكاتب للاسم الدّال على هذه البيئة يوحي بمعنىً واضح يتمثّل في الرخاء و الرضا ، أعني (النعايم ) حيث يصف السارد هذه القرية بأنّها سلة غذاء الجزيرة بما تحفل به من مياه و نخيل و شواطيء. رابعاً - الكشف عن عوالم المرأة و الوسط النسائي في تلك البيئة ، و ما تنطوي عليه من ملامح و أسرار وممارسات ، وبنية نفسية تتعلّق بمسألة الأنوثة (الجندر) والنّسوية بمفهومها الثقافي بشكل عام وعالمها الوجداني وعلاقتها بالرجل و مشكلات العواطف والحب و الزواج ، وما إلى ذلك . خامساً – تحوّلات النفس البشرية وأمزجتها وتوقها إلى التحرر من القيود ومكابدتها لظروف الحياة الطارئة والسائدة ، وما ينتاب العلاقات الوجدانيّة و الإنسانية من تحوّل وتغيّر. سادساً – قضية التربية ومؤثراتها الأسرية و المجتمع الأبوي المغلق ومفارقة الظاهر و الباطن والخافي و المعلن . سابعا -مشكلة الأوبئة الأخلاقيّة و النفسيّة وما تتركه من ندوب و ما تخلّفه من عُقَد وأمراض اجتماعية , ثامناً – الأحلام و الكوابيس و تأثيرها في سلوك الشخصيات وتوجيهها للسلوك و المشاعر والنظر إلى المستقبل ، وماتنبيء به في العرف الاجتماعي والنفسي وما تنطوي عليه من تأويلات و ما تتركه من آثار بعيدة المدى . تاسعاً – الموروث المذهبي وما يكتنفه من طقوس وممارسات وحركات ، وما يخلّفه التباين بينها من آثار على السلوك والوشائج و الممارسات . عاشراً- الشخصيات المتعدّدة المتنوّعة التي تقترب من مفهوم البطولة الجماعية في المصطلح الفّني ، حيث تتوزّع الأدوار الرئيسية على أكثر من شخصيّة في الرواية ؛ وفي الوقت ذاته تبرز من بينها شخصيّة لها دور محوري جامع يتمثّل في (حوراء) ، وتتراوح بين تشكيل ماعرف في الأدب الواقعي بالنماذج الاجتماعية التي تمثل شرائح بعينها من خلال صفات جوهرية مشتركة بينها وبين الطبقة التي تنتمي إليها ؛ فضلاً عن بعض الخصوصيات التي تميزها عن غيرها ، وكذلك الانماط البشريّة التي تنتمي إلى فئات مهنيّة ذات صفات ثابتة ؛ و غالبا ما تكون شخصيات ثانوية ، سواء من الذكور أو الإناث . وكل ما ذكرته يتعلق بالرؤية وهو ما تدل عليه العتبة الأولى ممثلة في العنوان حيث الجمع بين الدلالة الدينية والاجتماعية ولاالنفسية ؛ فالسراديب توحي بما تختزنه الشخصية في اللاوعي وحرصها على إخفائه وفق نظرية فرويد عن اللاوعي ورواسبه وظهوره في الأحلام ، وكذلك موضوع الكابوس و ما تركه من أثر في نفس حوراء التي رأته في ليلة زفافها،وظلّ يرافقها إلى أن انتهى بها إلى الإخفاق في الزواج و الفضيحة التي كشفت عن الخطيئة الكبرى التي مارستها حوراء وانكشفت على يد زوجها عادل حين صرّح لها بأنه عقيم و أن التوأم الذي أنجبته سفاحاً شاهدعلى خيانتها . أما بنيتها الفنية فهي بنية دائرية انتهت من حيث بدأت، وقد استثمر الكاتب أساليب السرد المتعددة من حيث الترقيم العددي للفصول الذي يبدو فيه كل فصل مستقلاً بسرديّته عن الآخر ، ثم تتداخل الوقائع وتتشابك من خلال تقنية الاسترجاع و الاستذكار ؛ حيث يصطنع الكاتب أساليب التشويق ، فيوهم القاريء بالاستقلال بين الفصول إذ ينفرد كل فصل بوقائعه الخاصة ، ثم يعمل على الربط بينها بالإحالة الضمنيّة لما سبقها مذكّراً بها من خلال ترداد الأسماء و الوقائع ، وهي حِيَل سرديّة جمالية تضفي لوناً من ألوان المهارة في تشكيل البنية المعمارية للرواية , اللافت في الرواية تعدّد الرواية وتوزيع البؤر السردية ، و وتنوّع البرنامج السردي وسياقاته ، و المقصود بالبرنامج السردي تنظيم وتقديم المعلومات أو التعليمات أو الأحداث. البرنامج السردي في هذا السياق هو الخطوط العريضة أو الخطّة المُنَظِّمة التي تُستخدم لهيكلة السرد ، و يركز على كيفية تنظيم الأحداث، والشخصيات، والزمن، والمكان لتحقيق التأثير المطلوب في الكشف عن الرؤية في العمل الروائي من خلال تشكيل الأبنية السردية عبر تنوع طرائقه كما في هذه الرواية. أما فيما يتعلق بالتبئير في الرواية فهو مصطلح أدبي يستخدم للإشارة إلى زاوية الرؤية أو وجهة نظر الراوي التي يتم من خلالها نقل الأحداث في العمل الروائي و يتعلق التبئير بالطريقة التي يتم بها تقديم المعلومات للقارئ وكيفية ترتيب الأحداث والتفاصيل، سواء من منظور شخصي أو خارجي ، و الملاحظ في هذه الرواية فإن الكاتب منذ الفصل الاستهلال الأول في الرواية يقدم من خلال شخصية محورية وحدث إطاري تنبؤي يوحي بما ستنتهي إليه الرواية عبر تفاصيل الحلم المروي على لسان الساردة المحورية التي كان لها النصيب الأوفي في عملية السرد وفي تبلور البرنامج السردي ، و وحدة العمل الروائي ، وهي (حوراء) فقد وظف الكاتب الاستهلال توظيفاً فنّيّاً أفضى إلى ترابط الأحداث و وحدة العمل الروائي وتوجيهه في منحى تصاعدي إلى النهاية التي حمل بذرتها الكابوس التي رأته حوراء ليلة زفافها , وفي الحقيقة كانت عملية التبئيردالّة على رؤية ذات رؤية مستقبلية أفضت إليها الرواية في خاتمتها، فكان التركيز على وصف الحيز المكاني بما ينبيء به من دلالات ؛ فالأبواب المغلقة و السراديب و الطقوس و الممارسات وما اتسمت به من وعي فلسفي وتعبير مجازي رمزي وجودي (رحم يدفع و أرض تبلع) و تصوير ما تموج به النفوس من طباع حافلة بالتناقض و الشك ، وما يحيط بها من مظاهر النخيل و البحر والحديث عن عالمها و ما ضمّته من بحيرات (بحيرة الطوايح) ومن يرتادها من المصطافين و ما يمارس في ذلك الفضاء الواسع من خطايا قراصنة البحر ولصوص البادية، وما يقابل عن الأشباح و الجن وأصوات الحيوانات، والإفاضة في الحديث عن التنوير ومصادر المعرفة و الحوزات العلمية، و الفرق بين ما كان منها في النجف الأشرف العربية و قم الفارسية ودلالته العقدية و السياسية ، وما تموج به البيئة من أسرار تتعلق بممارسات لأنماط من الشخصيات ،مثل (المُلا راضي) بعض الجوانب المكانية تتحول في الرواية إلى رموز دينية افتراضية فضلاً عن كونها عوالم مُعزّزة بالمفهوم الرقمي؛ أي فضلاً عن كونها رمزيّة مفترضة واقعيّة يعزّزها الرمز الديني؛ فهي في البيوت أمكنة تستعمل للقاءات و السهرات العائلية ؛ فكانت تجتمع فيها (حوراء) الشخصية المحورية في الرواية مع صديقاتها من النسوة يتسامرن و يتحدثن في شؤونهن و أشجانهن على اختلاف مشاربهن وممارساتهن . وقد انطوت الرواية على إشارات ذات بعد تاريخي اجتماعي يتعلق بأنماط اللباس و المجتمع الأبوي وسلطته القمعية ، و الفوارق الطبقيّة و البعد الأخلاقي لنماذج من هذه الطبقات ، والنموذج الذي قدمته الرواية مُمثِّلا لاقتران الفقر مع الزهد و( الرضا) بوصفه قيمة أخلاقية تمثّلها (سكينة) التي قدمتها حوراء على أنها (أختها التي لم تلدها أمها )على الرغم من الفارق في المكانة الاجتماعية ، وما مثّلته من مثال ناجح للزواج القائم على القيم الأخلاقية النبيلة على الرغم من الفارق الشاسع في السّن بينها و بين زوجها بو عايشة والمرجعية الرّمزية للجدّة مُمثّلة في (الحجيّة) والحساسية المذهبية، و الرؤية السياسية والبعد الفكري لها ؛ مثل الإشارة إلى الثورة الإيرانية و انحرافاتها ومن يمثلها في الرواية وجذورها الصفوية ، و الانصراف إلى الحديث عن الشاعر و الموهبة الشعرية ، و الأساتذة وأثرهم كالإشارة إلى المعلم محمود سلامة والتحليق في آفاق خيالية شعرية : التوحّد مع الألم في ممارسة بعض الشعائر ، والنسب بين البحر و الصحراء وقد كان ترتيب الفصول و رواتها يتناغم مع أدوار كل شخصية من الشخصيات ؛ فكان السارد في الفصل الأول ذاتيّ البث إذ كانت حوراء راوية مشاركة تحدثت بحرية وطلاقة عن تجربتها ؛ إذ عبِّرت عن تجربتها الشخصية بشكل مباشر باستخدام ضمير “الأنا” و في هذا النوع من السرد، يكون الراوي جزءًا من القصة، ويتفاعل مع الأحداث والشخصيات ، وقد سجلت تفاصيل عن حياتها و مشاعرها مهدت لما ستؤول إليه الأمور في نهاية القصة، وكان الراوي في الفصل الثاني سليمان الذي كانت تأمل بالاقتران منه (وقد عبر عن حدث منعطف في تاريخ المنطقة) فهو من الكويت التي منيت بالغزو العراقي ؛ فلم يحل اختلاف المذهب بينه وبين (حوراء) عاطفيّا ولكنه حال بينهما و بين الزواج ، وقد حفلت الرواية على لسانه بتفاصيل عن الوضع السياسي والتكوين الثقافي والإشارة إلى رموز تلك المرحلة. ثمة الكثير مما تزخر به الرواية حول (تعدد الأصوات) و (اللغة) و(جماليات السرد) و (الرؤى التربوية و الفكرية) والنماذج و الأنماط ) ولعلي أتمكن من استكمال الحديث عن الرواية فيما بعد.