
هذا كتاب يحوي كما ذكرت المؤلفة في عنوان جانبي (نظرات تدبر ثقفات، و ثمار باهيات، تطيب بالأخذ بها الحياة) ، ولكن هذا التدبر لا يوصل إلى هذه الثمار الباهية إلا لمن توافرت لديه أدوات التدبر العقلية و العاطفية، وأهمها التمكن من اللغة العربية، والقدرة على الإبحار في محيطات التفسير الواسعة، والمؤلفة عالمة باللغة والتفسير، متفاعلة مع الحياة وفنونها، مدركة لاحتياجات البشر التي إن توافرت طابت لهم بها الحياة. قارئ الكتاب سيتذكر قول الامام على رضى الله عنه (كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به}، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم”. جمعت المؤلفة في الكتاب ثمان عشرة ثمرة، يجمع بينها أن كلا منها تمدنا بقيمة من منهجيات العمل أو التعامل ذي الأبعاد الإنسانية الحضارية والتنموية، أخلاقية واجتماعية وإنسانية. (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم)، العالمين كل الخلائق، الرب من التربية، وهي إصلاح شؤون الغير ورعاية أمرهم، أي أن الله تعالى هو المربي للعالمين، والتربية تعني تبليغ الشيء إلى كماله، ويراد بها في شأن الإنسان: تقديم الظروف والعوامل التي تساعد الفرد على النمو جسميا وعقليا وانفعاليا ليصل إلى أقصى حدود كماله. الرحمة في اللغة هي الرقة والانعطاف، وسمي الرحمُ من انعطافه على الجنين، والرقة تعنى الإحسان إلى المرحوم، والرحمن أشد مبالغة في الرحمة من الرحيم، فالرحمن ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة. وثمرة هذا الفهم أن الرحمة أساس يُبنى عليه أمر الدين، فينبغي أن يكون سمة مميزة للمسلم تتصف بها جميع تصرفاته وعلاقاته مع الناس أجمعين على اختلافاتهم، ولو كانوا غير مؤمنين، وذلك ما يُستفاد من الجمع بين الاسمين، وتقديم الرحمن على الرحيم. ومن هنا فليس لأحد -كائنا من كان- أن يتعرض لأحد بأذى بسبب خلاف أو خطأ، ولا أن يعرض لأحد بقتل أو سبي أو تعذيب أو غيرها. الله أرسل رسوله رحمة للعالمين، ودوره هو التبليغ (وما على الرسول إلا البلاغ المبين)، والإنذار المقرون بالتبشير ثم التذكير، ولا إكراه على اعتناق الإسلام. هذه الآية (ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ،) تظهر صورة من الرحمة، فالدعاء يكون تضرعا وخفية، والله لا يحب المعتدين، والاعتداء منه رفع الصوت بالدعاء في غير حاجة، فينشأ عنه إزعاج للآخرين، ومن المعتدين من يدعو الله بما لا يليق كأن يطلب أن يكون نبيا، ومن الاعتداء أن يدعوا بالهلاك على قوم لا يستحقون الهلاك، ومن الاعتداء أن يدعو بالضرر على من لا يضرونه، فإن دعا على أحد بضرر يساوى ما أحاقه به من ضرر ربما جاز، ولكن إن دعا بضرر يتعدى إلى قوم المدعو عليه كولده وسائر أهله فهو اعتداء، وهذا النهي صورة من صور رحمة الله للبشر. ومن الثمار أن الأمور ذات الأهمية ينبغي أن يأتي الحديث عنها دقيقا، ومحددا مصحوبا بما يرفع الاحتمال: الآية تقول (اهدنا الصراط المستقيم) ثم توضيح ما هو الصراط المستقيم؟ (صراط الذين أنعمت عليهم) ومزيدا من التوضيح، مخالف صراط (المغضوب عليهم) وهؤلاء الذين ظهرت منهم المراغمة وتعمد المخالفة، و مخالف صراط (الضالين) وهؤلاء هم الذين وُجهوا وجهة هدىً فزاغوا عنها من غير تعمد ذلك. وآية (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) فمن لم يجد الهدى (فصيام ثلاثة أيام في الحج)، (وسبعةٍ إذا رجعتم) ولنفي توهم أن الأمر تخييرٌ بين صيام شاق خلال الحج، و صيام إلى بعد الحج قال: (تلك عشرةٌ كاملةٌ) الدقة والتحديد واضحان. ومن ثمار تدبر القرآن الانفتاح على ثقافات الأمم الأخرى وإقرار ما كان في الجاهلية من ذلك إن لم يتعارض مع الدين، مثلا لفظ آمين بمعنى اللهم استجب، لفظٌ غير عربي، فهل هذا يخالف ما جاء في الآيات أن القرآن جاء (بلسان عربي مبين)، فى القرآن ألفاظ ليست عربية ولكنها عُربت وأصبحت لحمة في لسان العرب، مثل أباريق وإستبرق من الفارسية، وقسطاس وسراط من الرومية، وأرائك من الحبشية، وغساق من التركية، وكلها استعملها العرب فتعربت قبل نزول القرآن فوردت في الآيات القرآنية. هذا دليل على الانفتاح على الأمم الأخرى (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) الآية، (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبروهم وتقسطوا إليهم) الآية. وهذا الفهم ما كانت الحاجة إليه عبر العصور بمثل ما نحتاج إليه اليوم، فلا يمكن لأمة أن تعيش بمعزل عن الأمم، ولا سيما في المجال الاقتصادي. ومن الثمار ما رأته المؤلفة من أن القرآن وضع أساسا من أسس جودة الأداء وتنمية روح الانتماء، وكان بهذا سابقا لمدارس التنمية البشرية، وهذه التنمية علم حديث نوعا ما. فالمنهجية تقتضى الحوار المثمر وتبدأ باطلاع المرؤوسين (وإذ قال ربك إني جاعلٌ في الأرض خليفة) ثم الاستماع إلى الرأي الآخر (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) بعد سماع الآراء المعترضة يأتي دور الإقناع (إني أعلم ما لا تعلمون) ، ثم حضر الله أذهانهم لمعرفة ما غاب عنهم (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) هنا يسلم الملائكة بالعجز (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) ، فتأتى نقطة الكشف ،عندها يكون الحوار قد وصل إلى مبتغاه وهو الإقناع (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) . وتعلق المؤلفة بأن على كل من يتولى مسئولية تربوية أو إدارية أن يحرص كل الحرص على جعل الحوار بجميع مراحله المشار إليها منهجا متبعا وألا يجدوا غضاضة أو تنافيا مع مقام الأبوة أو الرئاسة أو الأستاذية، ولله المثل الأعلى، انظر إلى اعتراضات الملائكة التي طُرحت على الله تفصيليا وبشيء من الإصرار. ومن الثمار أن سلامة الحكم تقتضى السماع من المتحاكَمين لا السماع عنهم فقط، انظر إلى قول الله تعالى (وقال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي، أستكبرت أم كنت من العالين)، الله يعلم بسبب عدم سجود ابليس و لكنه يتيح له أن يقول فيُسمع وهنا يأتي الشيطان بجواب يؤكد على قصر النظر والتسرع في الحكم، (قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)، كان إبليس من الغباء بأن نظر إلى مادة الخلق وفاته اعتبار الخالق (لما خلقت بيدي) . تتمتع اللغة العربية بسمات أهلتها لحمل كتاب الله المعجز إلى الناس، يقول المستشرق الفرنسي ريجي بلاشير: “إن من أهم خصائص العربية قدرتها على التعبير عن معانٍ ثانوية، لا تعرف الشعوب غير العربية كيف تعبر عنها”، ويقصد بـ “المعاني الثانوية” المعاني الإضافية التي تتحمل بها التراكيب، نتيجة بنائها على خلاف الأصل من تقديم وتأخير وحذف، و من العجب أن يكون الإيجاز رافدا من روافد تولد المعاني، والإيجاز سمةٌ من سمات العربية جميعها، الصوت والصرف والنحو. لنقرأ الآية القرآنية (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون) ، الإيناس أدى دور الاستئذان، فإن المستأذن يشعر بالوحشة فإذا أذن له حل الأُنس محل الوحشة، فانظر كيف كان الإيجاز معبرا عن فعلين. وفي الآية (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) ، هنا عبر بالإيناس عن العلم، لأن الإيناس يحصل مع أول ما يتبادر إليه العلم بالرشد، و هنا إيحاء بوجوب أُنس الوصي على مال اليتيم، بوصوله إلى انتهاء مرحلة الأمانة، فيبادر إلى تسليم اليتيم ماله. ومن جمال التعبير بالإيجاز عن الإعجاز إيثار الإفراد على الجمع، (ولله الأسماء الحسنى)، الحسنى مفرد جاء نعتا لجمع تكسير، وهو جائز في اللغة العربية في مثل هذه الحالة، ونلاحظ أنه مع تعدد مرات ذكر اسماء الله في القرآن ففي كل مرة وصفت بالحسنى، والحسنى تأنيث اسم التفضيل الأحسن، ولو جاء وصف الأسماء جمعا (الحسنيات) لربما فُهم أن هناك أسماء أحسن من غيرها، ولكن في الإفراد بالحسنى قطعا لأي شك فهي كلها على نفس المستوى من الحسن. وفي الآية (لهم فيها أزواج مطهرة) جاءت مطهرة مفردةً وصفا لجمع هو أزواج، ولو جاء الوصف مطهرات قد يتوهم البعض أن بعضهن أطهر من بعض، فكان الإفراد هنا للقطع بتساويهن في التطهير سواء منهن من كانت طاهرة خلقا كالحور العين، أو تصييرا كنساء الأرض وقد كوفئن بالجنة. و مما استوقف الكاتبة أن القرأن قد سمى فعل قوم لوط فاحشة، وترى أن ذلك يقطع علي كل المحاولات لجعله مرضا يمكن التسامح مع فاعله باعتباره مريضا، لأن الله يقول (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) فإن القرآن لم يسم هذه الفعلة الشنيعة مرضا، بينما أورد العمى والعرج مثالا على المرض. تدبر حكيم يرتقى بأفهامنا و حياتنا في شهر القرآن وفي كل الشهور والعصور، (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)، صدق الله العظيم.