السياحة السعودية: رِحلَةٌ لاِستِردَادِ الجَمالِ المَنسِيّ.

في فَضاءاتِ الصَّحراءِ المُمتدَّة، حَيثُ يَلتَقي سَحرُ التَّاريخِ بِبَهاءِ الحَضارة، تَنسجُ المملكةُ العربيةُ السعوديةُ بِخُطىً وَاثِقَةٍ حِكايةً تَختلفُ عَن كُلِّ ما سَبَق. لَطالَما كانتْ هَذهِ الأرضُ حارِسةً لِلقِدَمِ وَ الحُرمَيْنِ الشَّريفَيْن، وَ رَاعِيَةً لِلنِّفطِ الَّذي أَضاءَ العَالَم، وَ اليَومَ تَحمِلُ مِشعَلاً جَديدًا: مِشعَلَ السِّيَاحَةِ الَّتي تَفتَحُ أَبوَابَ القُلوبِ قَبلَ الأَرضِ. هِيَ رِحلَةٌ لِاستِردَادِ الجَمالِ المَنسِيّ، وَ بِنَاءِ مُستَقبَلٍ يَلتَفُّ بِالأَمَلِ كَالنَّخْلَةِ تَنَامُ آمِنةً في حُضنِ السَيفَين. مِنْ مَهْدِ التَّاريخِ إلَى بُوصَلَةِ المُسْتَقْبَل لَم تَكُنِ السِّيَاحَةُ فِي المَمْلَكَةِ مُجرَّدَ خِيَارٍ، بَلْ ضَرورَةٌ وُجودِيَّةٌ تَنبَثِقُ مِن عُمقِ الهُوِيَّةِ. فَهَذهِ الأَرضُ، الَّتي مَرَّتْ عَلَيهَا قَوَافِلُ التُّجَّارِ وَ الحُجَّاجِ مُنذُ آلافِ السِّنين، تَحمِلُ فِي طَيَّاتِهَا أَسرارَ الحَضَارَاتِ: مِنَ الأَنبَاطِ فِي “الحِجر” (مَدِينَة الحِجر) إلَى طُرُيقِ البَخُورِ فِي “العُلا”، وَمِن صَرحِ الدِرْعِيَّةَ التَّارِيخِي إلَى أَزِقَّةِ جُدَّةَ العَتِيقَةِ. لَكِنَّ السِّيَاحَةَ الحَدِيثَةَ لَم تَتَشَكَّلْ إلَّا بِوُعُورَةِ التَّحدِّياتِ، فَكَيفَ لِأُمَّةٍ تَعتَزُّ بِالتَّقَالِيدِ أَن تَفتَحَ صُدُورَهَا لِلسَّائِحِ الوَافِدِ؟ جَاءَتِ الإجَابَةُ بِـ”رُؤيَةِ 2030”، الَّتي حَوَّلَتِ السُّؤالَ إلَى فُرصَةٍ، وَالحُلمَ إلَى خَارِطَةٍ. فَالرُّؤيَةُ لَم تَكُنْ مُجرَّدَ خِطَابٍ، بَلْ ثَوَرَةٌ هَادِئَةٌ تَمَسَحُ غُبَارَ القُرُونِ عَن وَجهِ المَمْلَكَةِ، لِتُظهِرَهُ بِبَهَاءِ المُنَافَسَةِ العَالَمِيَّةِ. صُنْعُ المُعْجِزَةِ: مَشَارِيعُ تَخْطِفُ الأَنْفَاسَ تَتَحَدَّثُ المَمْلَكَةُ بِلُغَةِ المُستَحيلِ، فَتَبْنِي فَوْقَ الرِّمَالِ مَدَائِنَ تَسْبِقُ الزَّمَنَ: - “نيوم”: لَيسَتْ مَدِينَةً، بَلْ حَدْسٌ هِيَ حَيْثُ تَلتَقِي التِّكنُولُوجيَا بِالإِنْسَانِ، وَ السِّيَاحَةُ بِالاستِدامَةِ. فِي “ذا لاين” (الخَطّ)، الَّذِي يَمتَدُّ بِـ170 كِيلُومِترًا تَحتَ قِبَّابٍ زُجَاجِيَّةٍ، يَعِيشُ السَّائِحُ فِي مَدِينَةٍ لَا انبعَاثَاتِ كَربُونِيَّةَ فِيهَا، وَ يَتَنَقَّلُ بِقِطَارٍ سَرِيعٍ يَقطَعُ المَسَافَةَ فِي دَقَائِق. - “مَشْرُوعُ البَحرِ الأَحْمَر”: جَنَّةٌ أَرْضِيَّةٌ تَضُمُّ 90 جَزيرَةً بِكَراً، تَعِدُ السَّائِحَ بِالغَوصِ فِي أَعماقِ المَرجَانِ، وَ السَّيرِ عَلَى شَوَاطِئَ لَم تَمَسُّهَا أَيدٍ، وَ الإِقلَاعِ بِطَائِرَاتٍ كَهْرَبَائِيَّةٍ لِحِمايةِ البِيئَةِ. - “العُلا”: هُنَاكَ، حَيثُ تَنعَكسُ أَشِعَّةُ الشَّمسِ عَلَى صُخُورِ المَدَائِنِ المَنسِيَّةِ، تَتحَوَّلُ التَّارِيخُ إلَى حَاضِرٍ. فَمَوقِعُ “الحِجر” (أَوَّلُ مَوقِعٍ سُعودِيٍّ مُدرَجٍ فِي قَائِمَةِ اليُونسكو) يَروي حِكَايَاتِ المَعمَارِ النَّبطِيِّ، وَ مَهرَجَانُ “شتاءُ طنطورة” يُحَاوِلُ أَن يَجْمَعَ بَينَ الفَنِّ الحَدِيثِ وَ الطَّبِيعَةِ الأَزَلِيَّة. التُّرَاثُ: نَبْضٌ لَا يَخْفُتُ لَوْ أَرَادَتِ السُّعودِيَّةُ أَن تَنْسَى تُرَاثَهَا، لَاخْتَارَتْ طَرِيقًا آخَر، لَكِنَّهَا تَختَارُ أَن تَبْنِيَ عَلَى أَصَالَتِهَا. فَفِي “الدِرْعِيَّة” التَّارِيخِيَّةِ، عَاصِمَةِ الدَّولَةِ السُّعودِيَّةِ الأُولَى، تُعيدُ القُصُورُ الطّينِيَّةُ وَ المَسَاجِدُ العَتِيقَةُ رِوَايَةَ التَّأسِيسِ، بَينَمَا تَتَحَوَّلُ “جُدَّةُ التَّارِيخِيَّة” (البلد) إلَى وَجهَةٍ ثَقَافِيَّةٍ تَجْمَعُ بَينَ الرُّواشِينِ المُلَوَّنَةِ وَ المَطَاعِمِ العَالَمِيَّةِ. بِنْيَةٌ تَحتيَّةٌ: جِسْرٌ إلَى العَالَمِ لِكَي تَصِلَ الرِّسَالَةُ، لَابُدَّ مِن لُغَةٍ يَفهَمُهَا العَالَمُ. لِذَا، أَطلَقَتِ المَمْلَكَةُ: - التَّأشِيرَةُ السِّيَاحِيَّةُ الإِلكْترونِيَّةُ، الَّتِي جَذَبَتْ مَلَايِينَ الزُّوَّارِ بِسُهُولَةِ الحُصُولِ. - شَبَكَةُ مَطَارَاتٍ حَدِيثَةٍ، مِثلَ مَطارِ “جُدَّةِ الجَدِيد”، الَّذِي يُعَدُّ أَكبَرَ مَطَارٍ فِي المِنطَقَةِ بِمسَاحَةٍ تَزِيدُ عَن 100 كِيلُومِترٍ مُربَّع. - قِطَارُ الحَرَمَينِ السَّرِيعُ، الَّذِي يَربِطُ مَكَّةَ بِالمَدِينَةِ بِسُرعَةٍ تَصِلُ إلَى 300 كِيلُومِترٍ فِي السَّاعَةِ. وَفِي كُلِّ مَكَانٍ، تَرَى السُّعودِيَّةَ تُرَحِّبُ بِالسَّائِحِ بِلُغَةِ الكَرَمِ: فَنَادِقُ بِمُستَوَى خُمَاسِيِّ النُّجُومِ، وَ مَرَاكِزُ تَسوُّقٍ تَختَلِطُ فِيهَا العَالَمِيَّةُ بِالمَحَلِّيَّةِ، وَ شَبَكَةُ طُرُقٍ تَختَزِلُ المَسَافَاتِ. السِّيَاحَةُ: حِوَارٌ بَينَ الأَصَالَةِ وَالانفِتاحِ لَيسَتِ السِّيَاحَةُ فِي السُّعودِيَّةِ مُجرَّدَ زِيَارَةٍ، بَلْ حِوَارٌ عَمِيقٌ بَينَ ثَقَافَاتٍ. فَهُنَاكَ، يَستَطيعُ السَّائِحُ أَن يَرتَدِيَ العَبَاءَةَ وَ يَتَذَوَّقَ المَأكُولَاتِ الشَّعبِيَّةَ، ثُمَّ يَنتَقِلَ إلَى قِمَّةِ نَاطِحَةِ سَحَابٍ فِي الرِّيَاضَ لِيَرى المَدِينَةَ تَتلألَأُ كَاللَّؤلُؤِ. هَذَا التَّوَازُنُ لَيسَ صُدفَةً، بَلْ تَخطِيطٌ يَرفُضُ الِانحِيَازَ ، فَالسُّعودِيَّةُ تُدرِكُ أَنَّهُ لَا مُستَقبَلَ بِدُونِ مَاضٍ، وَلَا انفِتَاحَ بِدُونِ حِمايةٍ لِلثَّقَافَةِ. الوَعْدْ: أَرْضٌ تُنَادِي السُّعودِيَّةُ اليَومَ لَيسَتْ مِثلَ أَمْسِهَا. هِيَ أُمٌّ تَحضُنُ بَينَ يَدَيْهَا جَمِيعَ أَبنَائِهَا، وَتَقُولُ لِلزَّائِرِ: “هَذِهِ أَرضُنَا”الَتِي فِي صَحرَائِهَا يَخْتَبِئُ سِرُّ الكَونِ، وَ فِي جِبَالِهَا تَعيشُ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ، وَ فِي شَوَاطِئِهَا يَرقُصُ البَحرُ مَعَ السَّمَاءِ. السِّيَاحَةُ هُنَا لَيسَتْ وَجْهَةً، بَلْ وَعدٌ: وَعدٌ بِأَنَّ الجَمَالَ لَا يَموتُ، وَأَنَّ التَّحَوُّلَ لَيسَ خِيَانَةً لِلتَّارِيخِ، بَلْ تَكرِيمٌ لِجَوهَرِهِ. فَالمَمْلَكَةُ، بِكُلِّ مَا تَبْنِيهِ، تُذَكِّرُنَا أَنَّ الحَضَارَاتِ العَظِيمَةَ لَا تَرْضَى إلَّا بِأَن تَكُونَ.. نُوراً لِلْعَالَمِينَ.