فرسان مفتاح الشعر والجمال.

إلى الأصدقاء الذين التقيهم في فرسان: السماء تحمل روحي إلى أفياء الجمال والشعر والبهاء، إلى (مفتاح) القلوب على عالم الحب والسعادة، في رحاب (فرسان) تلتقي الأرواح الشاعرة؛ لترسم في النفوس هالة نقاء وصفاء، بدأت تلك الهالة بالتشكّل حين تلقّيتُ دعوةً كريمة من جمعية الأدب ممثلةً بمديرها التنفيذي الأستاذ: عبدالله مفتاح، فكانت الفرحة تنبتُ رويدًا رويدًا شوقًا لزيارة فرسان، حيث كانت الخطوات الأولى تدعوني إلى أن أذهب إلى المطار مبكرًا، وكأنّني أرقب موعدًا مختلفًا، وكأنّني بمجرد حضوري المبكر سأكون في أحضان فرسان، هكذا تكون اللهفة والشوق والحنين، البقاء في المطار يعني أن أكون في حالة انتظار، والانتظار عادة ما يكون مؤلما وممّلا، إلا في تلك اللحظات كان زاهيًا وبهيّاً، ولذا كان الصعود إلى الطائرة متازمنًا مع دقات قلبي المتسارعة، كان صعودي أشبه ما يكون بقفز على عصا الزانة لأكون في كنف الطائرة أولا. الطائرة تسبح في ظلمة الليل في ساعة لم يبلغ فيها الليل منتصفه، ولكنها كانت مضيئة بفرح اللقاء المنتظر، حينها كانت 45 دقيقة في السماء ثوانيَ معدودة فقط من القصيم إلى الرياض وهي المحطة الأولى، مساء بارد وشتاء قارس وليل طويل، هنا اشتعل الفؤاد شوقًا، وبدأ الصراع بين النوم واللهفة، فغلب الأول وغبت في حلم اللقاء المرتقب، لم تكد ليلتي تمضي إلا والساعة السادسة صباحًا على أبواب عينيّ توقظني، فنهضت مسرعًا عائدًا إلى المطار، فكانت ابتسامات اللقاء الأولى تبث تباشيرها في قلبي، هنا ثبتت عيني على صباح مشرق وضّاء، وشمس تتهادى بين السحب بنورها المنسكب على أكتاف الطائرة، أخذتني الرحلة إلى جازان، فكانت هذه المسافة طويلة جدًا لم أكن أعتقد أنها ستنتهي، فالسماء بغيومها القريبة والأرض بجبالها الشاهقة تتعانقان حينا وتنفصلان حينا آخر، إنها رقصة على أنغام الجمال حتى هبوط الطائرة في أرض جازان النبيلة، هنا يستقبلك الحب كله، فالورد يحمل وردا والبحر يسكب ماء عذبًا، والهواء العليل يهديك عطرا، هكذا يكون كل شيء خارج المتوقع والممكن. لحظات السعادة تكتمل شيئًا فشيئاً كأنها دائرة رسام أتقن انسيابها في محيط لوحته لتكون بدرا أو شمسا أو وجها جميلا لا يُملُّ منه، حينها توافد الأصدقاء من كل جانب حتى رسموا قصيدة جميلة على لوحة بوابة الخروج، ليكونوا في مجمع الالتقاء فتتصافح الأيدي وتنساب ابتسامات اللقاء، يدلفُ الكلّ إلى حافلة تنقلهم إلى ميناء جازان حيث (العبّارة) التي تعبر بهم إلى فرسان، هنا تبدأ لمسات البحر وهمساته تدنو إلى القلوب، وكأن أسماك البحر تغني (يا مال) ومرجانه يرقص على نغمات الموج الهادئة، تسير بي العبارة وأنا أدخل في حلم مختلف لذيذ التكوين، كانت (العبارة) هادئة جدًا، لم أشعرْ بوصولي إلى (فرسان) حتى نادى المنادي بنا لكي نترجل عن البحر ونستقلّ الأرض مرة أخرى، ولكنها أرض (فرسان)، هنا امتزاج الأرواح بالحب والدهشة. خطوات هادئة نحو جمع غفير من أهالي (فرسان) الكل يبتسم والكل يعطر المكان بكلمات الترحيب، كانت الشمس تأخذ محلّها من الجانب الغربيّ، وتؤذن بالوداع حتى صباح غد، حينها تعانق الجميع في صورة (جماعية) على مرفأ فرسان، لتكون صورة خالدة لا تُنسى، دقائق ويكتمل الجمع في قلب الحافلة إلى حيث مكان الإقامة، كانت الطريق هادئة والسماء صافية والجو البديع يأخذنا لعالمٍ مختلف، ما إن وصلتُ إلى مكان الإقامة، حتى بدأت أهازيج تراث أهل فرسان تناجي القلوب، والورود توزع على الأرواح، والترحيب ينساب مع نسمات جميلة تأتي من البحر. حين خلدتُ إلى غرفتي في الفندق، شعرت بأريحية رائعة، هدوء مفعم بالراحة، وسكون مليء بالسكينة، فتحت (ستارة) النافذة فإذا البحر أمامي يبدو حالما، كانت ليلتي الأولى والتعب يتسع مكانه وتكبر مساحته ليواري لهفتي وشوقي لهذه الجزيرة الحالمة. في صباح اليوم التالي، استيقظتُ مبكرًا، فالكل موعودٌ برحلة في أعماق البحر الأحمر، بعد تناول وجبة الإفطار، أخذ الكل مكانه من الحافلة، توجهت بنا إلى المرفأ ليستقبلنا موظفوه بكل حب وتقدير، حين أخذت مكاني من القارب الصغير، وبدأ يشق عباب البحر، كانت الذكريات تلح عليّ فأشجار القَندل (المانجروف) و (الدلافين) و(طائر البجع) و(النوارس) والجبال الصخرية والسواحل الرميلة تحيط بي، كان الموج قاسيًا كأنه ينبه الطفل الذي في قلبي ليقول: ما زال في الجمال بقية؛ ولذا الدهشة والشغف لاكتشاف هذه الزاوية الرائعة في البحر الأحمر تجعل الأمواج مجرد ألعاب مائية ممتعة، خضتُ في غمار البحر ساعات طويلة ولكن الوقت مضى ولا نشعر بشيءٍ من التعب بل إنّ مساحة النشوة في قلبي تتسع، حتى خلدتُ إلى ساحل جميل هادئ ممتع، شمسه الدافئة والبحر الصافي، نقلاني إلى عوالم مختلفة. فاللحظات الجميلة على ذلك الشاطئ مع الحوارات المتنوعة مع أصدقاء الرحلة وهبا قلبي أنشودة الحياة من جديد. كانت العودة إلى حيث مكان الإقامة تأخذ من قلبي رغبة البقاء في أعماق البحر، ولكن هي الحياة فلحظات السعادة الجميلة تبقى ذكريات خالدة، فلا بد من العودة، فالمساء ينتظر الشعر والإبداع، فكانت الأمسيات الشعرية الجميلة تهطل على قلبي كأنغام الليل الحالمة بالجمال. أمسيات شعريّة ممزوجة بأنغام الناي حينا والعزف حينا آخر. في صبيحة اليوم التالي كانت فرسان تنهض بكل ودّ، لتعانقني برحلة في قلبها وشرايينها المتوهجة بالحب والجمال. فمنذ الصباح كانت فناجين القهوة بطعمها الفرساني تجول بين الشفاه، وكان الحوار شيّقا مع رجال فرسان يتقدمهم الأستاذ الشاعر الجميل إبراهيم مفتاح، الذي كان في حديثه وعباراته يحمل فرسان إلى كل العالم، إنه يحفظ من تاريخها وحوادثها وجمالها ورائحة أهلها السابقين شيئا كثيرا، رجل تشعر أن فرسان هي أمه التي ولدته وزوجته التي حضنته وابنته التي يهدهدها في مهدها، لم ترَ عينيّ رجلا مثله، فهو يكتسح كل المحيطات لتبقى فرسان خالدة في ذاكرة الإنسان، كان بيته عامرا بكل شيء بالكتاب والشعر والنقوش والأدوات القديمة التي كان يستعملها الإنسان في فرسان. وملامح فرسان تبدو زاهية الجمال في جسرها الذي يربط بين فرسان الكبرى وأختها الصغرى، يمتد إلى قرية (القِصار) التي كانت بمثابة الروح القديمة التي تنفث سحرها بين الفينة والأخرى في نفوس أهل فرسان. في ملامحها تاريخ لم ينسَ، في جدرانها عبقٌ من ماضٍ جميل، قرية تذكرك بروح مفقودة، وأيام معهودة. أما منزل (الرفاعي) فقد كان منزلا تراثيا عتيقا وجميلا، فيه نقوش وكتابات لآيات قرآنية وأشعار رائعة، كتب في أحد الجدران: في سنة 1341هـ: دار بها السعد بدا والهم عنها طردا انتهت تلك الرحلة وعاد الركب إلى مكان إقامته، وتهادت نفسي إلى راحة عصريّة تخلد فيها إلى حلم جميل، فالمساء ينتظرني بليلة الشعر الثانية وأمسية الوداع وحفلة غنائية تعيدك للطرب الجميل. ما فتئت نفسي تريد البقاء وتلح عليّ بألا أغادر هذه الجزيرة الفاتنة وشواطئها الساحرة ولياليها العذبة بأنسام عليلة، ونهارها المشرق بشمس تصافح وجهي بكل هدوء ومحبة، ولكنه قدر الليالي الجميلة والصباحات السعيدة أنها تنقضي وتزول سريعًا فكانت رحلة العودة صباحًا، وحيث كان اللقاء ممتلئًا بالحب والجمال والورود كان الوداع مكتنزا بالورد والجمال والحب، فمن ساحة الفندق إلى العبارة، ومنها إلى المطار فكانت الرحلة في ويوم واحد بحرا وبرا وجوا، مرورا بقهوة الصباح لتكون معها آخر رشفات الحب مع قهوة جازان الرائعة. فرسان مهد العاشقين جمالا ولحسنها تهفو القلوب جلالا أنا شاعر من بوح سحرك هزّني شوق ، فجئتُ محبةً ودلالا ألقيتُ في كفيك زهرة خاطري فسمت تسابقُ أنجمًا وهلالا فرسان يا بوح المشاعر لم أجدْ لسواك في أفق البهاء مجالا غاباتُ قَندل والقِصارُ بإرثها تزهو بها أجيالها أجيالا في متحف المفتاح وهج مشاعر ورعى الرفاعيُّ التراث فنالا من بحرك الفتان يرقص ساحل ليجوب في أرواحنا موالا فرسان -سيدتي- أتيتك عاشقًا ولِهًا إليك، فهل منحت وصالا ! وأنا أحلّق في السماء يقودني نور لوجهك لا يريد زوالا وجناح طائرة يغرّد باسما: فرسان مهد العاشقين جمالا ها أنت ساحرة بفيض باهرٍ يكسو القلوب من الجمال خيالا في ملتقى الشعراء تنبض أحرفٌ لتشيد حسنك في الوجود مثالا.