مشاهد رمضانية في الذّاكرة

(1) في زمن مضى. قبل اختراع مكبّرات الصّوت كان للمئذنة دور حيوي في إيصال صوت الحق إلى سامعيه من سكّان القرى. المئذنة لم تكن كتلة من الحجارة ترتفع كأصبع شاهد المؤمن الموحّد. المئذنة مرتقى للمؤذن ليرتفع عن كتل البيوت من حوله، وليصدح بالأذان بصوته الجهوري من خلال فتحاتها ليوصله إلى الناس ندياً معبّراً عن روحانية تفيض بها الصدور. لترتفع جملة (الله أكبر) في جهات القرية. يوصلها الهواء غير الملوّث بأصوات ضاجّة من بشر أو من آلات يوصلها إلى الأسماع بوضوح مبين (الله أكبر. الله أكبر) (2) في مجلس ضمّ مجموعة من الأصدقاء وقف شاعر شعبي ليلقي أبياتاً شعرية عن المؤذ ّن. رفع صوته ليسمعه الحاضرون، قال: (صوته عالمئذنة ينادي والهوا مرسال يروي ظما الصّادي يخلّي الروح تلين.. تخشع ومن غير مكبّر كلّنا نسمع نداه فوق البيوت رحاّل) (3) في ساحة القرية الواسعة تجمّع بعض الأطفال (بنين وبنات) منتظرين أذان المغرب. أطفال تتحنىّ أقدامهم الصغيرة بترابها حين يرقصون ويغنّون مبتهجين: (المؤذّن شا يأذّن شا يقول: الله أكبر ) صعد المؤذن درجات المئذنة الحجرية ببطء حتّى إذا ما وصل أعلاها رفع يديه إلى قرب أذنيه ثم صدح بالنداء (الله أكبر .....) (4) الزمان / التاسع والعشرون من شهر شعبان عام 1900م المكان / قرية مأهولة بالسكاّن في جزيرة نائية من جزر البحر الأحمر تسود حالة من الترقّب لصدور خبر عن رؤية هلال رمضان... المسافات بعيدة ووسائل نقل الأخبار شحيحة. والوصول إلى خبر رسمي غير يسير. لأن البحر مارد أزرق يفرد جسده بين البّرين. البّر الشرقي الذي فيه المركز الإداري وبّر الجزيرة المسكونة بتجمّع بشري سكنوا الجزيرة منذ أزمنة بعيدة. شيخ الجزيرة وأئمة المساجد أكثر النّاس قلقاً. فالمناسبة مهمّة. والنّاس في انتظار إشارة منهم ليدخلوا في أداء الفريضة ويستعدّوا لنمط حياة مختلف عن بقية أشهر السنة. السكاّن ينتظرون قول أولي الأمر ليصبحوا صائمين (5) وصل الخبر في ساعات متأخّرة من ليلة الثلاثين من شعبان يؤكّد تمامه. جاء بعد أن نام أغلب السكاّن على نية إتمام الشهر كما شرح لهم أئمة مساجدهم. (6) ساعة غروب شمس أول يوم من أيام شهر رمضان المبارك... يبدو الهلال ظاهراً في السّماء كقلامة ظفر بيضاء. بعض المصلين من بوابته الواسعة. وفي السّاحة الخارجية القريبة من المسجد مجموعة من الأطفال (بنين وبنات) بملابسهم السائدة في ذلك الزمن والتي تدلّ على حالة آبائهم المادّية. لكنّهم مبتهجون مرحون يلعبون ببراءة يرقصون ويغنون: (المؤذّن شا ... ياذّن شا يقول الله أكبر ) بعد دقائق صعد المؤذّن إلى أعلى مئذنة المسجد تنحنح قليلاً ثم رفع صوته بأذان المغرب. صمت الأطفال عن الغناء حتّى انتهاء المؤذّن من رفع الأذان. ثم ركضوا إلى منازلهم القريبة وهم يردّدون فرحين (تفطّروا يا صايمينا حق ربّ العالمينا واحمدوا الله المعينا صومكم تمّ ... والأجر)