الفن والرصاصة: كيف نجا الإبداع من الغدر؟

في صباح يومٍ من أيام مارس 1994، كان عبد القادر علولة، أحد أعمدة المسرح الجزائري، يخطو خطواته الأخيرة على أرض كان يعشقها، نحو لحظة كتابة مسرحية جديدة بعنوان “العملاق”. كان يملأ قلبه شغفًا، وعقله يتنقل بين خيوط الحكاية التي كان ينسجها لجمهوره. فجأة، وبينما هو مستغرق في أفكاره، وقبل أن تتمكن يده من الإمساك بالقلم لكتابة السطر الأخير من مسرحيته، اخترقت رصاصة غادرة ظهره. تلك الرصاصة لم تكن مجرد حادث عابر. كانت جريمة إرهابية تستهدف ليس شخصًا واحدًا، بل كانت تهدف إلى محو جزء حيوي من تاريخ الجزائر الثقافي، وهي محاولة جادة لاغتيال أحد أعظم كتّاب المسرح في الجزائر. وفي تلك اللحظة التي سقط فيها عبد القادر علولة على الأرض، كان الوطن كله ينزف، والجماهير التي كانت تترقب أعماله تذرف الدموع، لكنهم جميعًا لم يعرفوا أن هذا الاغتيال لم يكن قادرًا على قتل الإبداع. الرصاصة التي لم تُطفئ الأمل كانت تلك الرصاصة تستهدف قلب عبد القادر علولة، ولكنها لم تستطع أن تغتال رسالته ولا إبداعه. كانت الأيدي التي أطلقتها تأمل في أن يُسكت الصوت الذي طالما صدح بالحقيقة، والأمل، والنضال من خلال المسرح. لكنها أخفقت. فالفن لا يموت بتلك السهولة، والإبداع لا يُقتل برصاصة مهما كانت جبّارة. نعم، قتل عبد القادر علولة جسديًا، لكنه ظلّ حيًا في أعماله، وفي ذاكرة كل من تذوقوا إبداعاته. عبد القادر علولة، ابن مدينة الغزوات في ولاية تلمسان، قدّم للمسرح الجزائري بصمات لا يمكن محوها. كان يؤمن بأن المسرح ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل أداة للثورة، للحديث عن القضايا الاجتماعية، والتحديات التي يعيشها المجتمع الجزائري. وقد قدّم العديد من الأعمال التي تلامس الواقع الجزائري، مثل “القوّال”، و”اللثام”، و”الأجواد”، و”التفاح”. مسرحه كان ينهل من التراث الشعبي الجزائري ويستخدمه كوسيلة للتعبير عن معاناة الناس وآمالهم، وكان يعكس التحديات الاجتماعية التي يواجهها المواطن العادي في الجزائر. الفن الذي يتحدى الموت عندما أُطلقت الرصاصة على عبد القادر علولة، لم تكن تلك هي المحاولة الوحيدة لقتله. فقد عاش علولة في زمن مليء بالتحديات والأزمات، وواجه صعوبات كثيرة في حياته الفنية، ولكن الميزة التي تميز بها هي أنه كان دائمًا يواجهها بالفن. لم يساوم على مبادئه، ولم يتراجع عن تقديم رسالته. وكأن المسرح بالنسبة له كان خطًا لا يمكن أن يُحرف، وكان الفن هو السلاح الذي يدافع به عن الحق والحرية. وقد ترك عبد القادر علولة وراءه إرثًا ضخمًا من الأعمال المسرحية التي تواصل التأثير في الأجيال الجديدة من المسرحيين والفنانين في الجزائر. فبعد اغتياله، أضحت أعماله أكثر حضورًا وأهمية، لأن كل مسرحية كتبها كانت تُعبّر عن واقع الجزائر في زمنه، لكنها أيضًا تحمل رؤى أمل للمستقبل، وتظل بمثابة ردّ فعل قوي ضد الظلم، وضد محاولات تهميش الإبداع والثقافة. البقاء في الذاكرة: كيف نجا الإبداع؟ ورغم الاغتيال، لم يستطع الإرهاب إيقاف قوة إبداعه. اليوم، وبعد 30 عامًا على رحيله، تستمر أعمال عبد القادر علولة في التردد عبر المسارح الجزائرية، وتظل ملهمة لكل من يسعى لإبقاء الفن حيًّا في ظل أي عواصف قد تهدد بحرمان الناس من الحق في التعبير. ففي كل مسرحية قدمها، كان علولة يكتب تاريخًا، وكان المسرح بالنسبة له أداة للتغيير الاجتماعي والثقافي. حتى في لحظاته الأخيرة، كان يخطط لكتابة مسرحية جديدة تعكس تلك الرغبة المستمرة في الثورة ضد الظلم. لكن ما يميز عبد القادر علولة عن غيره من الفنانين هو أنه لم يكن يعتقد أن الفن يجب أن يكون حكرًا على النخب أو المثقفين فقط. كان يرى أن المسرح يجب أن يكون قريبًا من الناس، ويخاطب همومهم ومشاكلهم اليومية. وعليه، فقد قام باستخدام اللغة العامية الجزائرية في معظم أعماله ليجعل الفن قريبًا من جمهور واسع، فلا يمكن أن يُقاس إبداعه من خلال الأسلوب التقليدي فقط، بل كان أسلوبه أحد أساليب كسر الحواجز بين الفن والجمهور. إرث خالد: لا رصاصة قادرة على اغتيال الفكرة لقد كتب عبد القادر علولة خمسة أعمال مسرحية خالدة ظلّت حية في ذاكرة الشعب الجزائري. كانت تلك الأعمال تروي قصصًا عن معاناة المجتمع الجزائري في ظل الاستعمار والحروب الداخلية، وتطرح أسئلة عميقة حول الهوية والمستقبل. وتظل أعماله تلعب دورًا محوريًا في المسرح الجزائري حتى اليوم، حيث تُعرض في الجامعات والمراكز الثقافية ويُدرسُ أثرها على الأجيال القادمة. عبد القادر علولة، بالرغم من اختياره لأن يكون جزءًا من مشروع وطني ثقافي، كان مدركًا أن الفن يحتاج إلى حرية، وحرية الإبداع هي ما يجب أن يظل قائمًا في مواجهة أي قوى تحاول سلبه. وبعد 30 عامًا، لا تزال الجزائر تتذكره، ومسرحياته لا تزال تقدم كلّ عام على خشبات المسارح، مثلما يظل صوته يشق طريقه في أذهان من يحبون الفن. الفن هو الحياة ربما كانت تلك الرصاصة التي اغتالت عبد القادر علولة محاولة لقتل فنٍّ عميق، لكنها فشلت في تحقيق هدفها. فأعماله لم تكن مجرد كلمات تُكتب على الورق، بل كانت حياة متجددة، ومعركة دائمة ضد قوى الظلام. ففي كل مسرحية كتبها، كان يُنفّس عن آلام شعبه، وفي كل مشهد على خشبة المسرح، كان يقاوم أعداء الحياة، ويُثبت أن الفن هو سلاح الأقوياء في مواجهة الخوف والجهل. عبد القادر علولة لم يكن مجرد اسم في تاريخ المسرح الجزائري، بل كان أيقونة حية. تلك الرصاصة لم تقوَ على قتل الإبداع، لأن الإبداع ليس مجرد لحظة، بل هو حياة تُكتب وتُعرض وتنمو مع كل جيل جديد. وها هو إبداع علولة يظل حيًا، راسخًا، لا يُغتال. *صحفي ــ الجزائر