حالة فقْد

لم يكن وجه النهار شاحباً فحسب، بل بدا وكأنه نهار غريب لا عهد لي به، هالة داكنة من توجّس، أتلمّس نفْسي الهائمة بين الفجيعة والنكران، توغلّتْ مسافات التيّه داخلي فلم أقبض على مشاعري المنتظرة في مثل هذا الموقف، ولم أعد أتبيّن الوقت تماماً، الظلمة تنداح على وجه النهار، وكأني في عراك بين امتزاج الليل بالنهار، الصبح يتلكأ، شعاع من الشمس يخترق الحجب، الوقت ضحى لكنّ لا دليل يصرخ في وجهي ويوقظني من غفوة الصراخ داخل نفْسي، ينتثر الضوء فتلهف نفْسي متتبعة أيّة علامة تنشلني من كرب لم أستوعبه بعد، حال الصمتُ صخباً والسكون حركة . وجوه أتذكّرها تهدّلت بدموع ونشيج فقْد، أقلّب نظراتي التائهة بينهم لأقبض على سبب أعلمه جيّداً لكنني لا أستوعبه. تقازم الحزن والبكاء والعويل فلم تصعد إلى نفْسي من كلّ ذلك ما يودي بها إلى عتمة الفقْد. مات .. غاب .. ثم تتلاطم موجات البكاء الصامت والنائح، يتصاعد الوجيب في صدري، أنسج في ذهني حكاية أخرى جدّ بعيدة، حكاية ملتبسة تبعثر حزنهم وبكاءهم وتحمله نحو شخص آخر، شخص لا أعرفه ولن أحزن يوماً على فقْده. يعاودني نشيجهم، أحمل خوفي ودهشتي وأخرج إلى الشارع بدافع مجهول ، أقف على الرصيف متلفّتاً مستجلباً ذاكرتي، هذا الرصيف لا يشبه رصيف بيتنا ولا كلّ المدينة هي مدينتي ، أتلفتني الدهشة والرعشة، بين غرابة النهار وغربة المكان . أعود إلى الداخل لأجد وجهاً أعرفه .. أتذكّره، رجل بلحية بيضاء وسيماء وقار، تلقفني مشرعاً ذراعيه، فاندفعتُ إلى حضنه، رائحة أبي، غمتُ بها بنشوة فرح أنّ كل ذلك كان وهماً ، أوغلت في حضنه هرباً من نشيج انبعث فجأة من صالة البيت جعلني خائر الركبتين، أحاطني خالي بذراعيه، وشوشني بقوله اِبْكِ .. يجب أن تبكي، ثم ناداني باسمي ونزعني من حضنه، وهزّ كتفيّ وهو يكرر قوله اِبْكِ .. يجب أن تبكي .