في رواية (فراغ مكتظ) للروائي / إبراهيم مضواح الألمعي..
صراع الأيدلوجيات وجدلية الإنسانية العميقة.

أصبحت الرواية الوسیلة الأنجح للتعبیر عما یختلج في نفس الكاتب من أحاسیس ومشاعر، وما یشغله من أفكار وایدیولوجیات، لما يتوفر بها من أدوات، وما تمتاز به من مقومات فنیة وجمالیة، على مستوى الشكل والمضمون، خاصة إذا استطاع الكاتب أن يعبرعن أفكاره بأسلوب فني شیق، یستهوي القارئ، وامتلكَ لغة لها القدرة على تصویر عالمه الروائي بأحداثه وشخصیاته وزمانه ومكانه. ورغم الاتفاق على أن الأدب لیس اكتشافاً بقدر كونه إبداعاً وجمالاً وذوقاً ولغةً وثقافة، إلا أن هناك مساحة كبيرة من الحرية اكتسبها الأدباء، خولت لهم الاقتراب من الثلاثية المقدسة (السياسة، الدين والجنس) فيما يقدمونه من انتاجات أدبية، لطرح وتمرير الكثير من القضايا والصراعات التي تعج بها مجتمعاتنا. جاءت رواية (فراغ مكتظ) للروائي إبراهيم مضواح الألمعي، الصادرة عن دار أدب/السعودية عام 2023، كمثال لأهمية أن تكون الكتابة حَیَّةً، تشتبك مع قضایا الواقع والإنسان، وتقتحم المناطق الشائكة، لتحرك ركود السائد والكائن، وتلامس آفاق ما یجب أن یكون، عبر فكر مستنير، وأسلوب متوهج، وصیاغات متفردة، لتبعث وجودًا ینبض بحرارة الكشف وعمق التساؤلات، لتؤكد أننا لسنا أمام كاتب یمتلك جرأة ومقدرة على البوح والمكاشفة فقط، ولكنَّنا أيضًا أمام نصٍ إبداعيٍ مثیرٍ للتساؤلات. لما كان للنص عتبات؛ تثیر ذهن القارئ، وتشحذ الأفكار لديه، قدم لنا الألمعي أولى عتبات النص عنوانه المكتظ بالتساؤلات؛ فكان عنوان الرواية (فراغ مكتظ) وما يحمله من تضاد في المعنى مثيرا للتأمل والتفكير، الذي يحاصر القارئ حتى بعد انتهائه من قراءة الرواية، ليعرف كيف يكون الفراغُ مكتظًا! دلالة اللامكان وطمس الهوية يعتني السرد بتحديد جغرافية المكان في الحكاية كمُحدد أساسي للهوية، ولما يحمله المكان من مكونات ودلالات رمزية تبلور الكيانات ثقافيًا واجتماعيًا بل ودينيًّا أحيانًا، ورغم أن أحداث رواية (فراغ مكتظ) تدور في تسعة أيام فقط، حيث قام الكاتب (الألمعي) بتقسيم الرواية إلى تسعة فصول، وعنون كل فصل بتاريخ يوم؛ بدءًا من الأحد 2 يوليو2006، ليختتم الرواية بكلمة (بَدَأت) في اليوم التاسع الأثنين 10 يوليو 2006، إلا أنه لم يحدد مكان الأحداث جغرافيًّا، ليترك للقارئ مساحة شاسعة من التأويل والقراءة في متن الحكاية، حتى يعيد بناءَها وفق رؤية تزيد من مشاركة القارئ في فهم جذور المشكلات التي تشترك عدة بلدان عربية في المعاناة من آثارها. لكنه لم يغفل وصف الأماكن التي تدور فيها الأحداث، حتى يكشف لنا عن الحياة اللاشعورية التي تعيشها شخوص الرواية. دعوة للتأمل في صراع الأيديولوجيات والانتماء تبدأ الفكرة الأساسية في الرواية (في شقة البلد العتيقة ولدت فكرة المواجهة بين الدكتور علام والشيخ نبهان، حين سخر علام من آراء نبهان، ووصف ما يفعله بالاتجار بالدين واستغلال عواطف البسطاء، في حين كان هزاع مشغولًا بالتفكير في برنامجه التليفزيوني، فخطر له ان يستضيفهما)، (قال هزاع: ما رأيك أن أستضيفك انت والشيخ نبهان للحوار في برنامج المناظرة؟) ص 11، الرواية ليست مجرد حكاية تُروى، بل هي مرآة تعكس واقعًا متناقضًا، يجمع بين الإسلاميين والليبراليين في فضاء فكري مكتظ بالحيرة والأسئلة. في “فراغ مكتظ” للكاتب إبراهيم مضواح الألمعي، نحن أمام عمل لا يكتفي بسرد الأحداث، من خلال ثلاث شخصيات رئيسية متناقضة كليًّا، بل يُشرِّح المجتمع فكريًّا، ويضعنا وجهًا لوجه أمام التحديات التي يفرضها الانتماء لفكرة أو تيار، أيضا الرواية ليست فقط نقدًا للتيارات الفكرية، بل هي دعوة للتأمل في هشاشة هذه الأفكار حين تصطدم بالواقع الإنساني، الإسلاميون يُظهرون التزامًا صارمًا بالمعايير الدينية، بينما الليبراليون يرفعون راية الحداثة والانفتاح، وفي قلب هذا الصراع، يبرز الإنسان كضحية، مشتتًا بين المُثُلِ العُليا والواقعِ المرير. مرآة الإنسان في مجتمعات متناقضة تُعد رواية “فراغ مكتظ” لإبراهيم مضواح الألمعي عملاً أدبيًا غنيًا يسلط الضوء على صراعات الفرد مع ذاته ومع مجتمعه، حيث يكشف الكاتب، من خلال شخصياته المتعددة وأحداثه المتشابكة، عن واقع الإنسان الذي يعيش بين شعارات مثالية وسلوكيات يومية تتناقض مع تلك الشعارات، ليؤكد لنا أن الرواية ليست مجرد حكاية عن صراع الأيديولوجيات؛ بل هي نافذة لرؤية الإنسان في دوامة المجتمعات المعاصرة، التي تجمع بين القيم المتصارعة والمصالح المتشابكة. الشخصيات بين الشعارات والواقع تُظهر الرواية تناقُضَ الإنسان بين ما يُعلنه من قناعات وما يُمارسه من أفعال، فالشيخ نبهان، الذي يُجسد تيار الإسلاميين، يعيش حياة مزدوجة؛ يروج للتقوى والالتزام بالشريعة بينما يستخدم الدين لتحقيقِ مكاسبَ شخصية، مثل تعدد الزوجات وتوسيع نفوذه الاجتماعي: (يتعجب هزاع لأن نبهان وبعض الشيوخ يدعون إلى الزهد في الحياة ويكثرون من الحديث عن الحياة الآخرة، إلا أنهم يعيشون الحياة الدنيا بشكل أعمق وأشمل، ويستغلون كُلَّ المُتع التي يصفونها بالمباحة، يعتقد هزاع أنهم يشغلون الناس بما في السماء ليستحوذوا هم على ما في الأرض) ص 25، على الجانب الآخر، يمثل الدكتور علام التيار الليبرالي، وهو يدعو إلى الحرية والانفتاح؛ لكنه ينغمس في حياة شخصية مليئة بالفوضى والأنانية: (منذ أسابيع استعاد علام حريته، فهو يستطيع الآن أن يعود إلى بيته متى شاء دون أن يسألَه أحدٌ أين كنت؟ بعد ان هجرته زوجته مصطحبة ابنتهما، سيفتقدهما، لكنه سيجد في حريته وتخففه من مسئوليتهما بعض العزاء، فيتفرغ للقراءة والبحث والسهر واستضافة أصدقائه وصديقاته) ص16. هذا التناقض يعكس واقعًا مألوفًا في كثير من المجتمعات؛ حيث تتحول القيم إلى أدوات لتحقيق المصالح الفردية، تُجسد الشخصيات الرئيسية في الرواية هذه الجدلية الإنسانية العميقة، التي تجعل القارئ يتساءل: هل نحن حقًا ما ندّعيه؟! الفضاء النفسي للشخصيات إلى جانب البُعد الاجتماعي، استخدم الروائي الألمعي أسلوب الراوي العليم، حتى يُظهر تعمق الرواية في استكشاف البُعد النفسي لشخصياتها، وخاصةً هزّاع، الشخصية المحورية التي تعيش أزمة وجودية، هزّاع المذيع الطموح الذي يسعى لإثبات ذاته بأي ثمن، يحمل داخله جروحًا قديمة من طفولة قاسية وتجارب مؤلمة، مذكراته، المكتوبة بأسلوب مليء بالمرارة والانكسار، تكشف عن إنسان محطم، يحاول تبرير خياراته وأفعاله في مجتمع يضغط عليه باستمرار، وقد لجأ الراوئي الألمعي أيضا إلى تكنيك كتابة هزاع لمذكراته ليروي لنا على لسانه متحدثا عن أبيه: (يفزع إلى دفتر مذكراته ليسجلها، عملا بنصيحة الطبيب النفسي) ص 53، (ليته يراني الآن على الشاشة كل أسبوع؛ أتحكم في الفرقاء، كما يتحكم المايسترو في الأوركسترا، لقد ذهب به النسيان، وبغنماته التي ضربني وأذلَّني من أجلها، ولم يتبق من آثاره سوى الندبة التي تركها في جبيني، وجروح غائرة في روحي تأبي الالتئام، وبقيت أنا ، بقي “ابن النملة” ليظهر على الشاشة وفي الجرائد كل أسبوع رغما عنه، وعن القبو وعن قرية الحزناء، وزملاء المدرسة، وعن حليمة التي أحببتها وكرهتها...) ص 54، الفضاء النفسي هنا ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو عنصر رئيسي يجعل الرواية وثيقة إنسانية عميقة؛ تُظهر المذكرات أن ما يدفع الشخصيات لاتخاذ مواقفها هو مزيج معقد من الماضي والمجتمع والضعف الإنساني. النفاق الاجتماعي كموضوع محوري أحد أبرز ملامح الرواية هو تسليطها الضوء على النفاق الاجتماعي، الذي يتجلى في جميع الشخصيات تقريبًا، سواء كان ذلك في استغلال الدين كما يفعل الشيخ نبهان، أو التلاعب بمفهوم الحرية كما يفعل الدكتور علام، أو حتى في شخصية هزّاع الذي يوظف المناظرة لإرضاء طموحاته الشخصية. تُظهر الرواية كيف أن المجتمع بأكمله يسهم في بناء هذا النفاق، حيث يُطلب من الأفراد التظاهر بالقيم والمبادئ، بينما تُمارس الحياة بشكل مختلف تمامًا. لغة الرواية وأسلوب السرد ما يميز “فراغ مكتظ” ليس فقط موضوعاتها العميقة، بل أيضًا أسلوب الكاتب في السرد، فحين ننظر لبنية السرد نجد أن الكاتب قد نجح في إنشاء شبكة علاقات مقنعة بین شخوص الروایة الرئيسية، كما أجاد إحكام خيوط كل الشخصيات حتى الفرعية منها، كما يتسم النص بالتماسك الفكري، حيث يخلق مضواح سردًا غنيًا بالتأملات الفلسفية، كل شخصية ليست مجرد فرد، بل هي تمثيل لأيديولوجية كاملة، ويتجلى ذلك في الحوار الداخلي والخارجي الذي يعكس أزمات الهوية والانتماء. أما اللغة المستخدمة في السرد فنجد أن اللغة الأدبية الرفيعة التي يستخدمها الألمعي تخلق توازنًا بين الوصف العميق للأحداث والتحليل النفسي للشخصيات، كما أن تقسيم الرواية إلى فصول تحمل تواريخ محددة يُضفي طابعًا توثيقيًا على الأحداث، مما يعزز شعور القارئ بأنها ليست مجرد رواية، بل شهادة على واقع مألوف. الدعوة إلى التوازن وسط الصراعات الداخلية ودوامات التناقض ما يجعل الرواية متميزة هو أنها لا تنحاز لطرف على حساب الآخر، بل تقدم نقدًا غير مباشر للطرفين، الإسلاميون يظهرون أحيانًا كأوصياء على الحقيقة المطلقة، بينما الليبراليون يتأرجحون بين التحديث والانفصال عن الجذور، فنجد الرواية تضع القارئ أمام سؤال محوري: هل يمكن للفكر أن يكون أداة للتحرر، أم أنه يصبح قيدًا حين ينغلق على نفسه؟ كذلك تطرح الرواية أسئلة وجودية حول قدرة الإنسان على التحرر من ماضيه وصراعاته الداخلية، هل يمكن للإنسان أن يتجاوز أخطاءه القديمة، ويعيد تعريف هويته؟ أم أنه يظل حبيس دوامة تناقضاته إلى الأبد؟ في النهاية، تقدم “فراغ مكتظ” صورة عميقة للإنسان في مجتمعات متناقضة، حيث يمتزج النفاق بالقيم، وتتداخل المصالح بالمبادئ، الرواية ليست فقط حكاية عن صراع الإسلاميين والليبراليين، بل هي مرآة تعكس ضعف الإنسان، وتجبر القارئ على التأمل في ذاته ومجتمعه.