
هو كاتب يعرف كيف يجعل الحرف برَّاقاً, يلونه برحيق العاطفة, يرشُّه برذاذ عطر الرومانسية, يكتب المواقف بسلاسة وعذوبة, ويشعل جمر الدهشة في المشاهد التصويرية المتلاحقة. الكاتب “ناصر الجاسم” الذي يعد من أبرز كتَّاب السرد في التسعينات في المملكة العربية السعودية. بين أيدينا مجموعته القصصية التي تحت عنوان “سبورة الحب” تتألَّف من ثلاث عشرة قصة, وكان لنا فيها التجوال التالي: ــ لنسافر معاً بعيداً بصحبة الغبار, فقد صارت مساحاته الرقيقة الناعمة خشبة لمسرح الحب على وقع قصة “سبورة الحب” التي احتلَّت عنوان المجموعة, حيث امتزجت ألوان العاطفة مع هبَّات الغبار الرقيقة القادمة من العراق لترسل هواجس مكتنزة بالسعادة وحب التغيير إلى درجة تجديد نبضات القلب من رتابتها المعتادة. القصة تفتح الخيال واسعاً على أحداثها المفعمة بالحرارة والحب عند كل تقدم من كلمات أسطرها. الغبار تخرق مساماته إصبع أنثوية على نافذة زجاج سيارة بطل القصة, فتركت كلمة “أحبك” يسطع وهج لهاثها بلا توقف. لقد مدَّت تلك الكلمة بطل القصة بطاقة إيجابية, فخلع من خلالها أزماته, راح يتعامل بكل أريحية مع من حوله, أصبح رجلاً آخر بقلب أخضر ونبض جديد, ليس هذا فحسب, بل ارتفعت وتيرة الحب لديه, حين تفاجأ أيضاً بقلب جديد, قد رُسم على زجاج سيارته في مكان آخر, هذا القلب كان نازفاً, يقطر دماً, وقد تُرك في داخله حرفان, شغلا عقله وفؤاده. هي نغمات الحب التي صدرت عن السبورة الفريدة, سبورة من زجاج وطبشور من غبار خطتها إصبع مفعمة بالرعشة وعبق الانتظار والمفاجأة, وحب المعرفة واللهفة, تشوبها ذاكرة البطل حين راحت تنبش أسرار الماضي والتوقعات: مَن تكون تلك العاشقة التي تركت بصمة حبها مرسومة على الزجاج قلباً ينبض عشقاً؟! الحبيبة الأولى, ومَن غيرها؟ بالتأكيد, ربما تكون هي تلك الرسامة الماهرة الخفية التي استطاعت أن تخرق مساحة سمراء على نافذة الحب. ــ المفاجأة بقلب جديد, من خلاله, استطاع بطل القصة أن يزخرف تفاصيل عواطفه بزينة عاشق راح يستجدي الوقت كي يتعجَّل رغبة منه في رؤية ذلك القلب المرسوم على النافذة الزجاجية حين أخبره أحد أصدقائه بذلك, نقتطف: “صرت كمن يريد حمل عصا, يضرب بها الوقت أو يهشُّ عليه كأنه غنم ليرحل, وأخيراً مشى الوقت بطيئاً كرجل عجوز.. وقفت في حضرة رسمها متأمِّلاً, وكأني أتعبَّد, وقلبي يدق..” ص9 ليس هذا كل شيء, بل هناك عواطف أججتها تلك المنمنمات على السبورة, عواطف قلبت الحاضر, فأعطته جماليات شتى كإنه كأس ماء فياض من كل الجوانب, هي مهارة كاتب في إخراج تلك العواطف من نبع كان يُعتقد أنه جاف, لكن الحقيقة أن النبع ليس كذلك بل هو فيَّاض حتى في الخفاء. ــ هو الرجل بشكل عام, رجل توقظ قلبه أدنى إشارة بالحب, ربما هو الفقد أو هو طمع بالحب والتغيير أو ربما الرغبة في إدخال متعة ما من أدنى إشارة أو همسة أو كلمة.. عواطف انحنت لها الكلمات بما استطاعت من جمال ومتعة. ــ سبورة الحب, قصة امتلكت زمام الرومانسية بعذوبة, وقد اسهب الكاتب في سرد لقطات المشاهد الجميلة بطريقة غير مملة, أبدع فيها الكاتب في كل نقلة لإيضاح معالم الجمال جملة إثر جملة. هذا ما جعل النص يمشي خبباً دون معوقات, كقطة تستكشف الطريق لأوَّل مرة, فلك أن تختار لها أي منعطف ستذهب فيه. ــ حين تجنح القصة إلى ابتكار لون جديد شفاف, فليس من المستبعد أن تلبس ثوباً مميزاً, ترفل به بتباه وكبرياء, هي القصة المعنونة “جسر الخدود ــ اللون الإبليسي”. ــ المطر, الجسر, والانغماس في الروحانية والتأمل, القمر والدموع.. كل هذا أصبح متن القصة أمام التعاويذ والأسحار التي رمتها النسوة في النهر تحت الجسر. لم يكن الخيال غافياً في النص, بل كان يتلبَّس تدفق الجمل وسط لهاث بطل القصة الذي قرر أن يعطي لوناً للوحة الجسر لم تكن الطبيعة قد ابتدعته بعد, فكان له أن سمَّاه “اللون الإبليسي”, نقتطف: “لون مستخرج, مستخلص من عصارات حقد وحسد وكره, شك وخوف وغيرة, نفاق لذوات بشرية تخلَّقت في قرون عديدة, أجزاء من غيرة أخوة يوسف, وجزأين من قلبي ريا وسكينة, وجزء من غرور النمرود..” ص22 ــ عمد الكاتب إلى رسم لوحة خيالية للمشهد, للجسر, للنهر, للسيارة والليل والهواجس التي ما انقطعت عن التلاعب بنظراته المضطربة حيال ما جرى منذ ثلاثين عاماً حتى وقت, لحظة وقوفه فوق الجسر. رسم المشهد من مفردات وتقاليد عفى عليها الزمن ليظهر ضعف تلك الأصباغ التي لوَّنت العقول باللون الإبليسي, ذاك التراكم من تعاويذ وأسحار في القاع, كان الصندوق الأسسود الخفي الذي انفتح فجأة بسبب قرار الرفض والتمرد, وإن دلَّ هذا على شيء فإنما يدلُّ على مقدرة واسعة من الكاتب لجعل اللوحة ترتفع في سماء العرض بشكل جديد بهي لافت, فقد اقترح على صديقه الرسام أن يرسم المشهد, ويلوِّنه باللون الإبليسي. ــ قصة “وجه البنت ميَّاس” قصة اكتنزت بعاطفة الأب الملتاعة حيال ابنه الذي لم يكن قادراً على الزواج, مما جعله ينظر أرضاً خجلاً من شاب بصورة بنت, فكيف له أن يرفع رأسه في وجوه الناس. الشاب “ميَّاس” يملك وجهه جمال وجه البنت برمشين ساحرين وخدين نديين وقامة ومشية وما إلى ذلك, “مياس” كل من حوله يعشق جماله, وكم ترغب الفتيات في وصله والزواج منه! لكنه في حقيقة الأمر “خنثى” من نوع آخر, فقد كان يتعرَّض للتحرش منذ دخوله المدرسة, وتوالت الأحداث حتى إن صديقات أختيه كن يتوددن إليه, وقد طلبت إحدهن الزواج به. هي حقيقة خلقية, اضطراب هرموني أصاب الجسد بخلل لا دواء له, مما جعل “ميَّاس” يدفع الثمن غالياً من أعصابه وراحة باله, حين يسمع تعليقات الناس الجارحة حوله خاصة في المدرسة, نقتطف: “كلما قام من على كرسيه, ووقف ناظراً للمعلِّم.. وشرع في الإجابة, اتجهت عيون زملائه من المراهقين صوب مؤخرته, وقد فهم مغزى نظراتهم الخبيثة, ومغزى العبارات المكتوبة له على جدار المدرسة, ومغزى محاولة الاتصاق به من خلفه في طابور المقصف المدرسي, وطابور الاصطفاف الصباحي, فخاف أكثر, وأخبر أمه..” ص68 يتميز أسلوب الكاتب في القصة بالرشاقة في تواتر الجمل والمشاهد التصويرية التي عكست جمال طلة “ميَّاس” وبهاء الجو العبيري الذي كان يعيشه على الرغم من بعض المنغصات, لكن حضوره كان يجلب المتعة للآخرين, ويفرض أحاديث ونتائج وتحليلات, لا تكون إلا عندما يكون حاضراً. “ميَّاس” حالة إنسانية ليست نادرة الحدوث, بل هي موجودة في المجتمعات بشكل عام, وطرق التعامل معها قد لا تختلف من مجتمع إلى آخر, بل قد تكون أكثر قسوة وانحداراً حين تغيب عين الضمير ولسان البعد الإنساني. الخلل الهرموني الذي أصاب “ميَّاس” ودفع ثمنه غالياً, وجعله محط سخرية من المجتمع الذي لا يرحم. من هنا تأتي التقاطة الكاتب الذكية المحكمة لموضوع القصة, وبالتالي توظيف الوجع الإنساني في ثوب سردي مزركش بالأوصاف والتصويرات الملوَّنة. ــ المجموعة بالمجمل تضيء على الكثير من الجوانب الاجتماعية المتنوعة, تعرّف بالعادات وبعض التقاليد المشهورة في السعودية, إضافة إلى ذكر بعض الألفاظ التي تعكس التخاطب الشعبي الاجتماعي اليومي, كما تعتمد على نقل الأحداث الواقعية بأمانة وبلغة تصويرية متلاحقة لمشاهد طالما خبرها الناس وباتت جزءاً من ثقافتهم الشعبية, نذكر على سبيل المثال أجواء قصة “الريح الحمرا ــ ناشي” وما حملته من أجواء الكي ومعتقداته وتفاصيله, إضافة إلى هواجس الأحلام وتفاسيرها. ــ يمتلك الكاتب جرأة في تصوير دواخل الشخصيات بطريقة لطيفة, برز ذلك في قصة “الروسية مديحة” وقصة “وجه البنت ميَّاس” هذه الجرأة أظهرت طبيعة التفكير حيال الجنس الآخر, وحقائق واقعية لا مجال لإنكارها على الإطلاق. الكاتب في سطور: الكاتب “ناصر الجاسم” كاتب سعودي من الإحساء, له العديد من المؤلفات والجوائز الأدبية نذكر منها: رواية “الحنين الميت” ورواية “العاصفة الثانية”, إضافة إلى ما قدمه من مجموعات قصصية منها “النوم في الماء” و”العبور” وهكذا يزهر الحب”..., وفي مجال النقد له كتاب بعنوان: صورة البطل في روايات “إبراهيم الناصر الحميدان” ـــ فاز في العديد من الجوائز الأدبية, منها المركز الأول في جائزة “أبها” عن روايته “الغصن اليتيم” والمركز الأول على مستوى جامعة الملك فيصل عن قصته التي بعنوان “النحلة العجوز” كذلك فاز في مسابقة المقالة التي أجرتها صفحة الواحة الأدبية في “جريدة اليوم” وهناك العديد أيضاً من محطات الفوز. الكاتب: ناصر الجاسم. الكتاب: “سبورة الحب” مجموعة قصصية. دار النشر: طُبع عبر مؤسسة أدب, بدعم من الصندوق الثقافي السعودي في المملكة العربية السعودية عام 2023