
سبع قصصٍ وتوطئة، هي ما أخذت المائة صفحة تقريبًا من مجموعة (مجرّد حرب) للقاص الدكتور ناظم علاوي. وبعيدًا عن التوطئة، كونها لا تدخل ضمن التدوين القصصي وكيفية إنتاج القصة بقامتيها الفكرة والحكاية، لأنها أي التوطئة جاءت من أجل إعطاء المتلقّي فكرةً عن البدايات التي كّونت شخصية القاص المنتج، والذي يصبح أسمه ناظم علاوي. ولذا فإن أوّل ما يلفت النظر هي القصص السبعة، وهي قصصٌ طويلةٌ تقع بين تسع صفحات و13 صفحة، إلّا القصة الأخيرة، فقد كانت تأخذ مساحة خمس صفحات. وربما تأتي التوطئة هنا لتعطي مدلول الاهتمام بالقصص الطويلة، على أنها سياقٌ إنتاجي يهتم بالحكاية القصصية في المتن، وتأخذ السياق القصدي في المبنى السردي.. ثم أيضا ما يلفت النظر إن العنوان الرئيس لم يكن ضمن عنوان قصّةٍ محدّدة من القصص السبعة، وهو ما يعني أن العنوان عبارة عن أصل جمع قصديات القصص، ليعطي التأويل مكانته. فتحوّل العنوان الرئيس من كونه بوابة المدينة القصصية، الى يافطةٍ كليةٍ ممتدّةٍ مثل ذراعين تحتضنان العناوين الأخرى مثل أمر رؤوم. فتحولت عناوين القصص الى بوّاباتٍ متفرّعةٍ لمدينةٍ واحدةٍ لها سبعة أبواب، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمستوى التأويلي، الذي يعطي مدلولية العنوان شرعيته على أنها (مجرّد حرب) ليس إلّا، وكأنه أي العنوان في عملية التقشير الدلالي، أنه يأتي ساخرًا مرّةـ ويأتي حاملًا لحرقته الواقعية تارةّ أخرى، مثلما يأتي بمنطق البحث عن فلسفة الحرب كونها التي تمنح الخسارات التي ستكون عليها مدن القصص حيث سيدخل المتلقّي الى شوارعها وأزقّتها وحتى بيوتها الواسعة تارةً ثالثة. الاستهلال ولعبة الروي كلّ قصّةٍ لها عنوانٌ مشبّعٌ بالقصديات الفرعية للقصدية الكبرى للعنوان، صاحب الذراعين الطويلتين. لذا يأتي الاستهلال ليس خاصًا بالقصة ذاته، بل بطريقة الإنتاج لدى علاوي ذاته. فهو يتّكئ على المستوى التصويري في بداية الاستهلال، ثم يتحوّل الى المستوى الإخباري أو العكس، ومرد ذلك يعود الى: أوّلًا: إنه يريد منح القصة قوام جنسها كقصّةٍ طويلةٍ تبدأ بالتصوير المكاني أو الحالة النفسية، ومن ثم الانطلاق نحو تفكيك الحكاية: (مسجى بالبياض، وسط غرفته التي لاكت لسنواته، وطارت بها أحلام نحو عوالم أسسها من عشق التاريخ والقريض.. متوسدا صدر الفجيعة، امام دهشه الكتب!) استهلال قصة زلال الذاكرة. ثانيًا: إنه يريده أن يكون منصّةً لإلقاء كلمات الحكاية، من خلال منطقةٍ عليا قادرة على السيطرة لرؤية كلّ العوالم الأخرى، التي تقع تحت نظر القصة وعنوانها من جهة، والحكاية وفكرتها من جهةٍ أخرى: (نقطه سوداء واسعة في جوف جبل استباح صمتنا وشهودنا وكل امنياتنا ، وغطاها بالصقيع فكانت اشبه باستراحة ثلجية ننطلق منها ثم نعود ليلمنا ذاك السفح بأيد بارده تجعلنا نصطك خوفا ونحن نروم التقدم نحو سفح حرب مقدر ان نكون نارها وحطبها ورمادها) استهلال قصة العراء ايها الوطن الخالد. ثالثًا: إنه يريد لهكذا استهلال أين يبدأ المستوى الدرامي للتحوّل من الفعل السردي الى الفعل الصراعي الذي يحتاج على عملية إخبار ذاتي من قبل السارد ليكون شريكًا في صناعة البؤرة الصراعية: (نفضت عنها غبار عزوبيه ثقيلة، ورمتها في وديان انوثة معطلة، بعد ان غادر «سالم» الى الحرب وقفت عند نافذه غرفتها التي احتضنت ساعات الحب ، تداعب الطائر الحبيس معها وهو يغرد ليونس شهود وحدتها) استهلال قصة الخيبة المتأخرة. رابعًا: إن الاستهلال سيفتح له أبواب الصراع وامتداداته المكانية والزمانية، عبر الكثير من التحوّلات الفكرية التي تعيشها شخوص القصص، وبالنتيجة دفع ماكنة السرد الى الإمام الت لتعطي أكلها، كلّما خرج من الاستهلال الى مواقع مدينة القصص الأخرى: (الفجر ما زال غافيا، ونحن نعبر خطا مائيا تتلوى حوله مفازات الموت والخوف بقساوة المحنة التي سنعيشها مثل ظلال مدن بهتت الوانها وفقدت بهجتها. القذائف المتساقطة ملات الارض بانبعاجات وحفر) استهلال قصة حافة الموت. خامسًا: إن الاستهلال يمنح المنتج/ القاص المقدرة على منح المستوى التصويري صورةً كليّةً للمشاهد التي ستاتي عبر استنطاق الحكاية الفرعية من الحكاية الكلية المرتبطة بالعنوان الرئيس، باعتبار أن القصص لها ارتباطات (جذعية) في الحرب، كمستوى استدلالي على الحكايات في المجموعة. وهو ما يجعل الاستهلال القوة التي تنبض بالمعنى ومن ثم بالتدوين: (بحر رمال ذهبية/ تنسيك لوهة قساوة شوارع المدن ! ارضية موحشة ، قدر لها ان تكون ساحة حرب لا نهاية لها! احتلت هذه الأفكار مخيلتي وأنا أنظر الى اللانهاية) استهلال قصة مراباة... سادسًا: إن الاستهلال أراده أن يكون هو بوّابة القصة وليس العنوان، باعتبار العنوان للقصة الواحدة يلحق العنوان الرئيس، وبالتالي فإن المعنى المراد لكلّ قصةٍ ترتبط بالعنوان الرئيس، وربما تفقد حلاوتها في المستوى الدرامي، فيلجأ الى جعل العنوان مشرع على مصراعيه كبابٍ أوّلي يعطي، الدليل معنى دلالة التمركّز في الصورة العليا: (لعنة الله على الحافلات لانها تأخذ الآباء الى غير رجعة، أنا ـكره الحافلات وبالذات ذلك اليوم الموغل في الماضي وفي صغري، حملت الحافلة أبي الى الحرب حيث الموت الغافي عند نهاية رمال الصحراء الممتدة نحو الغرب) استهلال قصة خذيني .. أيتها الطريدة. سابعًا: إنه الاستهلال الذي يجعل من اللغة القصصية تحمل المعنيين في القوامين الفكرة الحكاية، عبر استخدام مفعول الصورة الإخبارية للاستهلال، الذي يعني أن القصة دخلت أتون المعترك السردي لإنتاجها الحكائي : (مع اشراقة كل الشمس تمر على الخلق استيقظ نشطا سريعا على صوت البوق،ارتدي ملابسي على عجاله، أقف في وضعية الاستعداد في طابور طويل مع زملائي في الأسر) من استهلال قصة 3691. الخوف والإنتاج الحكائي إن إنتاج القصص التي تمتلك عمودًا فقريًا واحدًا، وتدور حوله الأضلاع الفكرية والحكائية، وهي هنا الحرب التي يخلص إليها المنتج على أنها مجرّد حرب، أنتجت كلّ الصراعات، سواء منها التشكّلات المشوّهة للنتائج، أو الذاكرة المتعبة. فإن اللغة كانت تأتي بحسب الحكاية، لذا فهي تعتمد بشكلٍ عام على المستوى الاخباري، الذي تكمن فيها الأهمية الفكرية، كونها تحيط البطل الإنسان الذي هو مرّةً السارد الضمني، ومرّةً السارد المنيب عن القاص المنتج، لأنه لا يريد التوغّل في مجريات الحرب ويدخل في أيدولوجيتها، ولا يريد الإفراط بها لأنها ذاكرة. لذا كانت في أغلب القصص ثمة صوت السارد عبر التدوين يصيغة المتكلّم. فالقصص ليست معالجةً فلسفيةً للحرب، بل هي معالجةٌ سيكولوجيةٌ بما انتهى إليه الحال، حتى لو كانت الحرب قد انتهت منذ زمٍن طويل، لكنها ربما تناسلت، وهو ما يجعل القصص واقعيةً حتى من خلال الإهداء الى شخصياتٍ قريبةٍ وأسماء المواقع والحروب الدلالات المكانية والزمانية. خاصة وإن الحرب ليست مقايضةً مع الحياة، بل هي الخوف الذي لا يسير باتّزان دائما: (لا يعرف الحرب إلا من اكتوى بنارها، هنا يتساوى احساسان متناقضان معا، تفاهة الحياة، والحرص عليها! الموت طائر يحوم حولنا وينقض علينا متى شاء) ص 45. لذا فهو أي المنتج يركّز على لسان سارده الكثير من علامات الخوف التي نراها متراكمة في أغلب إن لم يكن كلّ قصص الحرب والمأساة الإنسانية. فالخوف هو العلامة الفارقة، التي تطبع على الذاكرة، كلّما هبطت عليها ألسنة الحرب. فالمعالجة تأتي عبر التركيز على الخوف في الحكاية، ليكون هو الفكرة ومعناها: (المرارة شجرة مدت اغصانها في جسدي كله، والخوف طائر يزعق بداخلي، يمزقني ، يعبني، تستفزني حركته المريبة بقربي) ص 71. إن اللغة كانت تابعةً في تصويرها الى لبّ الخوف، وما يمنحه من قدرة حكائية وما يمكنه من قدرة تدوينية للعب على الزمن، حتى أنه في الكثير من التفاصيل يضع نجمات في جسد القصة كفواصل، من أجل إعطاء الملمح الزمني، والتحوّل السردي والمكاني، ومن ثم مواصلة اتّباع لذات الطريقة في استثمار اللغة الحكائية، التي ترتبط بالواقع الذي يرابط بالخوف، وحتى يتخلّص من تتابعية الاسترسال، يقطع المتن الحكائي بالحوار، ليعطي مفعول الشخصيات وجودها الدلالي، فيكون الحوار تابعًا لعبة من جهة، مثلما يكون تابعًا لطريقة التدوين واللعبة السردية التي يمارسها المنتج من جهة أخرى: (في ذاكره المعطوبة كنت اسافر باتجاه الحلم خائف من سرادق تنصب في المساحات الفارغة في الاحياء السكنية، لتقيم مدارس العزاء) ص 45. * العراق