قراءة في نقد النقد (كتاب الدكتور عبد الله هتان المرايا المهشمة) للشاعر أحمد هاشم النعمي..
تعمّق في رؤى الكاتب و ظواهر الديوان الجمالية والرؤيوية.

بحث أسلوبي ينتهج سبيلاً علميّاً، ينهض على قيمة أخلاقيّة تتمثّل في الوفاء ؛ ولعلني في هذه القراءة أمضي على خطاه في مسلك موضوعي يتمثّل في اقتفاء أثره ،محاولاً الإمساك بأطراف منهجه، بادئا بالتعريف بهذا المنهج الذي اختطّه الدكتورعبد الله هتان لدراساته منذ أن بدأ بتحرير رسالته التي تقدّم بها لنيل درجة الدكتوراة حيث كان موضوعها يتعلق بالموازنة بين علمين نقديين بارزين؛ يتمثلان في الدكتور صلاح فضل و الدكتور سعد مصلوح؛ فالأسلوبية هي فرع من فروع اللسانيات الأدبية التي تركّز على دراسة أساليب استثمار اللغة في الإبداع، للتعبير عن الأفكار والمشاعر عبر الانزياح عما هو مألوف ، وتهتم الأسلوبية بتحليل البنية اللغوية للنصوص الأدبية من حيث التراكيب، والأساليب البلاغية، والإيقاع، وغيرها من العناصر التي تساهم في تشكيل النص و يعتمد على عدة جوانب، مثل: دراسة كيفية بناء الجُمل والنصوص باستخدام الكلمات، التراكيب اللغوية، وأنماطه اوالبنية الصوتية والإيقاعية ؛ أي دراسة تأثير الصوت والإيقاع في النص، مثل التكراروالتنغيم والتوازن الصوتي وتحليل استخدام الأساليب البلاغية كالتشبيه، الاستعارة، التورية بالتركيز على البعد الوصفي بعيداً عن الأحكام المعياريّة، وغيرها من الأدوات التي تساهم في التأثير على القارئ. وكيفية تشكيلها وفهم العلاقات بين عناصره المختلفة و دراسة تأثير الأسلوب على المتلقي، ولعلنا نلمس ذلك في بنائه لخطة الدراسة ؛ فإذا تجاوزنا المقدّمات التمهيديّة التي تتمثل في حفاوة الكاتب بالشاعر و الوقوف عند سيرته ومنجزاته الشعريّة و الفكريّة فإنه يبدأ دراسته بالكشف عن رؤى الشاعر الدينية و الذاتية و السياسية والفكرية و الثقافية ؛ وذلك كله محصّلة للتحليل الذي يفصح عن أساليب التشكيل ، ولعله فيما ذهب إليه من التمييز بين مفهوم الرؤية و الرؤيا قد حرّر مصطلحاً بالغ الأهمية في الدراسات النقديّة ؛ ففي النقد الأدبي تشير الرؤية لتحليل التوجّهات الفكرية للكاتب ، وكيف يرى العالم أويتصوّره ؛ أمّا الرؤيا فتوميء إلى فهم الأبعاد الرمزيّة أو الخيالية في النصوص وكيفية تأويلها كعلامات دالّة على معانٍ أكبر من الواقع. فالفرق بينهما يكمن في أن الرؤية ترتبط بالتوجّه الفكري والوعي العقلي للكاتب، بينما الرؤيا تتّصل بالتصورات التي تتجاوز الظاهر إلى الاستشراف الوحي والنفسي ؛ وبعض الدارسين لايجد حرجاً في المساواة بينهما لصعوبة تحديد أمداء الرؤيا، وقد بدا واضحا أن الكاتب استطاع تمثّل الرؤيا على نحو واضح حين تحدّث عن صوره على أنها نتاج الإحساس الرهيف و الخيال المبدع، وحين وصفها بأنها تجلّيات، وكأنه يستعير المصطلح الصوفي ليقترب من هذا المفهوم الذي لا يخلو من الغموض وأشار إلى مسألة مهمّة تتعلق بالاستلهام في الرؤيا الدينيّة ؛ ولم يكتفِ بذلك فحسب ؛بل ذهب إلى تمثّلات هذه الرؤى سواء بالسرد أو الوصف و المعجم أو كيفية التصوير وتقاطعها مع المعاني و الأفكار حين عرض لقضيّة القدس و غيرها على نحو مدرك لمفهومي التمثل و الاستيعاب وهو ما ينسجم مع منهج الأسلوبية في تسخيرها لأساليب التعبيرعن الرؤيا؛ ولم يغفل عن تتبّع المحطات التي استوقفته للتعبير عن ذلك من خلال الوقائع و المناسبات الدينية ؛ ولعل أبرز هذه التجليات مقاربتُه للرؤيا الذاتيّة التي تجاوز فيها الظاهر إلى الباطن مُركّزا على الأبعاد غير المرئية التي تتصل بالأبعاد النفسيّة و الروحيّة والهواجس الخياليّة و الحلميّة والمزاجيّة و الوجدانيّة في مزيجٍ كّليٍّ استشرافيٍّ و قد نهج السبيل ذاته في حديثه عن الرؤيا السياسية واستطاع أن يتحرّر من برالجماتيّة المواقف الظاهرة إلى وجدانيّتها وسيكلوجيّتها وبعدها الروحي الذاتي الإسلامي وربطها بمفاهيم الشهادة و الجهاد و الواقعية جين وجد الشاعر يربط في قصيدته (الأسد الرابض) التي صوّر فيها استشهاد الشيخ أحمد ياسين وهو خارج من المسجد بعد صلاة الفجر على كرسيّه المتحرك ، وقصائده الأخرى المتعلقة بالأحداث الفاصلة في التاريخ المعاصر، وأما الرؤية الثقافيّة فقد استدل عليها بمذخورها اللغوي و حقوله الدلاليّة وارفة الظلال ومخزونها الموروث . وفي المبحث الثاني تناول المستوى التركيبي معتبراً - فيما احسب - تجليات الرؤيا في المبحث الأول مقاربة للمستوى الإفرادي الدلالي ، وقد تناول فيه البعد النحوي و البلاغي بوصفهما قوام الخطاب الأدبي، مشيراً إلى أن ظاهرة التّتميم في بناء الجملة باعتبارها تتجاوز الركنين الأساسيين في العرف النحوي والبلاغي (المسند و المسند إليه ) إلى ما أسماه الرّتب النحوية المكملة :المفعولات و النعوت و البدلات التقديم و التأخير و الحذف و الإضافة والنفي و الحصر والاستثناء و الإطلاق وما أسماه التبادل الدلالي بين الجمل : العدول من الجملة الفعلية إلى الإسمية ومن الخبرية إلى الإنشائية أو بالعكس ، حيث أشار إلى تراكم الأفعال المضارعة ودلالتها على التجدّد و الحركة والاستمرار، وتميّز الجمل الإسمية باليقينيّة و الثبات؛ إذ تبدو ظاهرة التداول بينهما مستشهداً بما جاء في قصيدته (خطا الحبيب) خطاك فوق أديم الأرض قد رسمت آيات مجد بها نشدو ونفتخر وقد عمد إلى الاستدلال الإحصائي، وهو نهج أسلوبي يعمد إلى توثيق الظاهرة و تحليلها؛ كما استثمر المقاربات البلاغيّة من تقديم وتأخير ودلالاته التشويقيّة و التعميميّة و التفاؤليّة و التعجبيّة و التخصيصيّة ؛ كما أشار إلى ظاهرة الحذف وخصئصها من ميل إلى الإيجاز وما وُصِف به في (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني حيث أشار إلى أنه” دقيق المسلك لطيف المأخذ ، عجيب الأمر شبيه السحر فيه ترك الذكر أفصح من ذكره وفيه الصمت أفيد” وتحدث عن أغراضه (الخوف و التشويق ومناسبة الوزن) وتحدث عن الالتفات و ألوانه من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب و من الخطاب إلى التكلم ...إلخ مستشهدا بمُقتبسات من الديوان مشيراً إلى ما أضفاه هذا التنوّع من ديناميكية و حركة دؤوب . انتقل بعد ذلك إلى المبحث الثالث (المستوى التصويريّ) الصور الجزئية و الكلية و السرديّة، وعمد إلى إيراد مجموعة من التعريفات للصورة الشعرية التي تهدف إلى نقل العاطفة التي يحسّ بها الشاعر إلى المتلقي ، والصورة الفنية التي هي “مجموعة العلاقات اللغوية و البيانية و الإيحائية القائمة بين اللفظ و المعنى أو الشكل و المضمون “ كما يعرفها (محمد الصغير) والحقيقة فإن الفرق بين الصورة الشعريّة و الفنيّة يتمثّل في أن الصورة الشعرية هي أسلوب بلاغي يعتمد على اللغة المجازيّة داخل النصوص الأدبية. ؛ أما ا لصورة الفنّية فهي تعبير شامل يمكن أن يُستخدم في الأدب والفنون الأخرى لإيصال فكرة أو مشهد بطريقة جمالية ؛ أما الصورة الجزئية فماثلة في الديوان عبر أنماط الصور البيانية المختلفة من استعارة وكناية ىو تشبيه ؛ أما الصّور الكلية فتتمثل في المشاهد التي تتناغم فيها الصور الجزئبة لتشكّل مشهداً كلّيّاً و يستشهد الناقد لهذا النوع من الصور في الديوان . أشار الكاتب إلى الصورة السرديّة بوصفها أهم تقنيات المستوى التصويري في تجاوزها للصورة الشعرية إلى صور نثرية وسردية ودرامية مشيراً إلى ماورد في كتاب البشير البقالي (صورةالإنسان في رواية السفينة لجبرا إبراهيم جفرا) والحقيقة أن ثمة فروق واضحة بين هذه الأنواع ؛ فالصورة االسردية تُبنى من خلال القص (السرد) في النصوص الأدبية، حيث يستخدم الكاتب التفاصيل والوصف لإحياء المشهد أو الوضع أو الحدث بطريقة سردية، مما يجعل القارئ يرى المشهد ويتخيّله كأنه جزء منه في الصورة السردية، التركيز يكون على تسلسل الأحداث والزمان والمكان. وظيفتها: تهدف إلى إيصال الحكاية أو الحدث للقارئ، مما يتيح له تصوّر الوقائع كما لو كانت تُروى بشكل مباشر، الصورة السردية تعتمد على الوصف المتقن وتفاصيل البيئة، الشخصيات والأفعال ؛ أما الصورة الدرامية فتتعلّق بالنصوص التي تُستخدم فيها التقنيات الدرامية، مثل المسرحيات أو السيناريوهات، حيث تُصوّر التفاعلات بين الشخصيات وتُبرز الصراع والحبكة الدرامية في العمل و الصورة الدرامية لا تقتصر على السرد، بل تعتمد على الحوار والتفاعل بين الشخصيات لخلق المشهد أمام المتلقي. وتهدف إلى إظهار الصراع والتوتر بين الشخصيات، وتقديم المشاهد بطريقة تُحفّز التفاعل العاطفي والتأمل في مصير الشخصيات.، و التركيز هنا يكون على الحوار والحدث الدرامي ؛ فالصورة السردية تُركز على الواقعية ووصف الأحداث والبيئة والصورة الدرامية تبرز الصراع الدرامي وتفاعل الشخصيات من خلال الحوار. الصورة البلاغية (النثرية) تتعلق بـ المجازات والصور الرمزية التي تُثير التأمل وتُضيف جمالية معنوية للنص.؛ وجل النصوص التي استشهد بها الناقد تندرج بالفعل تحت مفهوم الصورة السردية وفي المبحث الرابع تحدث الناقد عن المستوى الإيقاعي بنوعيهالداخلي و الوزني أي الموسيقا الداخلية و الخارجية مركزاً في النوع الأول على الجناس (التشابه في النطق والاختلاف في المعنى) وكذلك التكرار مستدلاً بشواهد متعدّدة من الديوان ؛ أما في مقاربته للوزن فقد بنى رؤيته على جدول بيّن فيه أنواع البحور التي اصطنع أوزانها في كل قصيدة من هذه القصائد متحدّثاً عن العلاقة بين الوزن و المعاني ، وهي قضية خلافيّة بين النقاد ؛ ولكن الناقد الذوّاقة لا تُخطئه هذه المناسبة بين الوزن و الرؤيا ، وكذلك فيما يتعلق بالقافية فقد اصطنع الإحصاء وسيلة لاستبيان وظيفة القافية الإيقاعية. والمبحث الخامس عالج فيه المظاهر الأسلوبيّة ممثلةً في (الرمز و التناص ) وهي ظواهر جمالية تقنية تتجاوز المفاهيم البلاغية التقليدية ، وقد قدم لدراسته التطبيقيّة بمقاربة نظريّة رابطاً بين الرمز والتأويل مصنّفاً الرموز التي تبدّت في الديوان إلى رموز دينيّة و أخرى طبيعيّة و تاريخيّة ؛ وكذلك التناص إلى ديني وأدبي . وقد خلص الناقد إلى أن الرؤيا الدينيّة تحتل المساحة الأوسع في الديوان ؛ حيث التفاعل مع قضايا المسلمين ومآسيهم وقضية فلسطين و الأقصى بخاصّة وأشار إلى غلبة القصائد الوجدانيّة و بالأخص الحب و الوفاء و الطبيعة، وما توحي به عناوين قصائده من جمال، وقد كانت نبرته احتفاليّة عاطفيّة تعبّر عن حب الناقد لصاحب الديوان ؛ لذلك اختصر نتائج دراسته الحافلة بالاستنتاجات المهمة التي كان بإمكانه التوسّع في الحديث عنها بما يتسق مع منهجه النقدي الذي التزم به التزام الناقد الخبير. وأخيراً كنت أود أن يصطنع الفصل بدلاً من المبحث في تقسيم دراسته؛ فقد جرت العادة على أن يكون المبحث وحدة تنظيميّة في الأبحاث القصيرة ؛ أما الكتب فوحدتها التنظيمية الفصل أو الباب وفقاً لطبيعة الدراسة ؛ ومهما يكن من أمر فهي مسألة تمسُّ الجوهر العلمي للدراسة.