
“أدريان برودي” وعقدة اليهودي المضطهد مرة أخرى بعد أن قام بآداء هذا الدور سابقاً في فيلم الأوسكار العظيم “بيانست” والذي أدى برودي فيه دور عازف البيانو البولندي اليهودي “فلاديسلاف شبيلمان” والفيلم ترك انطباعاً موجعاً لدى الجميع وتعاطفاً خاصاً مع الشعب اليهودي وما تعرض له أثناء الهولوكوست من إقصاء وقمع ومذابح ارتكبت في حق اليهود في أوروبا، نعود إلى أدريان وفيلمه الأخيرThe Brutalist” والمرشح كذلك للأوسكار والذي يعيد فيه فتح ملف الشعب المقهور ولكن بطريقة أخرى هذه المرة، حيث يهاجر المهندس المعماري الموهوب إلى أمريكا ليعيش سلسلة من الإخفاقات والتي كان سببها المباشر رفضه كمهاجر وكيهودي بالذات بالرغم من موهبته وقدرته على صنع مستقبل ناجح خاصة في الولايات الأمريكية الناشئة والتي ما تزال تتشكل وتبنى للتو، وكونه متمسكاً بديانته بالرغم من أنها كانت عائقا أمام بعض الفرص، ستجد في الفيلم استعراضا جميلا للكثير من الأعمال المعمارية السابقة لعصرها والتي تحمل رؤى جديدة، كما ستشهد روح البدايات الأمريكية والكائن الأمريكي المغرور والذي يظن أنه لا يقهر، يمرر الفيلم بكل وضوح فكرة اضطهاد شعب الله المختار من قبل الجميع ويشوش على فكرة العناية الأمريكية بالطفل الإسرائيلي. وتدور القصة حول المصمم المجري الموهوب “لازلو توث” والذي يهاجر إلى أمريكا لينجو بحياته ويقيم لدى أحد معارفه ويعمل عنده في متجر للأثاث، لكن الزوجة الكاثوليكية لن تقبل بوجود يهودي في المنزل مما يجعل من مغادرته للمأوى أمراً محتوماً خاصة بعد تعرضهم لعملية احتيال بعد تنفيذ تصميم لمكتبة كبيرة وتحمله لمسؤولية هذا الخطأ بالكامل، يخرج ليعيش في مأوى عام مع صديقه الإفريقي المهاجر أو المتشرد، حتى تأتي إليه فرصته للنجاة والعودة الى الحياة العادية من خلال رجل أعمال يحتاج إلى مهندس معماري لديه رؤيته الخاصة لتنفيذ مشروع استثنائي، ينبهر رجل الأعمال الأمريكي بتصاميم توث ويمنحه الكثير مقابل ذلك، فأصبح لديه منزل ليقيم فيه وراتب شهري، وساعده في استعادة زوجته وابنة أخته العالقتين في أوروبا ليشعر بالاستقرار، لكن المشكلات الجديدة كانت بانتظاره ناهيك عن إدمانه على المخدرات، وعودة زوجته على مقعد متحرك بأمراض لا علاج لها، الكثير من الضغوط والمتاعب أدت به إلى ترك هذا المشروع في آخر المطاف والبحث عن عمل آخر ويبدأ بالتعايش مع وضع جديد، حتى يتم استدعاؤه بعد أعوام للعودة للعمل عليه، وبالرغم من معارضة زوجته لذلك إلا أنه يصر على العودة إلى المشروع، فيقرر الذهاب إلى المحاجر في إيطاليا لاختيار الرخام المناسب لاستكمال المشروع، وهناك يلتقي بصديقه الايطالي الثائر ضد ستالين والذي يتخذ موقفاً معادياً من رجل الأعمال الأمريكي منذ اللحظة الأولى فيرفض السلام عليه، تنتهي الرحلة نهاية مفزعة، تتفاجأ برب العمل الأمريكي يقوم باغتصاب “توث” وإهانته وممارسة القمع الجسدي واللفظي عليه، وبالرغم من ذلك يعود معه إلى الديار ويعمل على إنهاء المشروع ، بروح مسلوبة كسيرة، وتائهة حتى تعرف زوجته بذلك وتذهب لمواجهة رجل الأعمال امام أبنائه وأصدقائه وتكون أشجع من زوجها.. ينتهي الفيلم نهاية عادلة إلى حد ما بعد أن يتم إنصاف وتكريم المعماري المبدع وهو في آخر أيامه، لم يدافع اليهودي عن نفسه أبداً حتى حين تم اغتصابه وهو في حالة سكر يبدو أن أحدهم يريد أن يقول شيئاً من خلال هذا الفيلم!!! يحاكي الفيلم اضطراب الهوية الذي يمر به المهندس في ظل الظروف التي يمر بها كالهجرة والقمع والفقر والغربة والانتقال من شكل حياة إلى آخر والبحث عن مسكن لكل هذه الآلام ليكون الهروين، وكذلك أزمة الرجل حين يكون برفقة امرأة قوية وزوجته بالرغم من كون علاقته بها معقدة إلا أن تأثيرها كان واضحاً عليه، وأفترض في حال كانت هناك رؤية إخراجية أخرى للفيلم لكانت البطولة نسائية لصالح الزوجة، والتي رأى الجميع فيها مبرراً منطقياً لنجاح الزوج، طالما كانت امرأة بهذه الروح إلى جواره وكأنها الدافع المنطقي لنجاحاته بل وربما قد تكون هي الأفضل والأقوى، كل ذلك خلق أزمة داخل هذا الرجل كانت أكبر من مداواتها وضاعفت لديه شعوره بالاضطهاد من قبل الجميع لينتهي ذلك كله بمحاولة تسكين آلام زوجته بالهيروين في لحظة عجز مما أوشك في القضاء عليها، تنجو الزوجة الشجاعة وتعرف حقيقة ما تعرض له زوجها، فتتخذ موقفاً حازماً وجاداً وتتخذ قرار المواجهة، بينما يتخفى الزوج خلف شعوره بالعار. وبرأيي كان من الممكن أن يكون هذا المشهد أي مشهد مواجهة الزوجة والأمريكي الثري بحقيقة كونه مغتصباً ومنافقاً، أقول: كان من الممكن أن يكون مشهداً أسطورياً بالقليل من الجهد والآداء والحوارات، لكنه بالرغم من مفصليته بدا عادياً باهتاً! تم تقسيم الفيلم إلى ثلاثة فصول، كما أن هناك نقلات باردة داخل الفيلم تترك فراغاً لدى المشاهد، فتشعر وكأنه فاتك مشهد أو حدث أو سقط منك جزء من الفيلم دون أن تراه.. آداء أدريان جميل جداً لكنه ليس جديداً، فقد اعتدنا على وجهه الحزين الذي شهد القمع في فيلم عازف البيانو وهو ذات وجه المدرس اليائس في فيلم Detachmen بعينيه التي توشك أن تبكي دون أن تفعل وحاجبيه المقوسين والحزن الذي يتسرب إليك منه حتى وهو في حالات الانتشاء أو الضحك، لا أريد القول إنه لم يأت بجديد أو أنه لم يفاجئني إنما لم يفعل أكثر من إتقان الدور الذي اعتاد إتقانه مسبقاً، الموسيقى في الفيلم جميلة ومتماشية مع روح الفترة الزمنية بالإضافة إلى بعض الخلفيات لأغاني الفترة المعاصرة للفيلم، عرض الفيلم لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي الدولي و حصل “كوربيت” على جائزة الأسد الفضي لأفضل إخراج وتم اختياره كأحد أفضل عشرة أفلام لعام 2024 من قبل معهد الأفلام الأمريكي. كما حصد ثلاث جوائز في حفل جوائز الغولدن غلوب الثاني والثمانون، والفيلم من إخراج وإنتاج “برادي كوربيت” وهو إنتاج مشترك دولي بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والمجر، ومن بطولة: أدريان برودي ، فيليسيتي جونز، غاي بيرس، جو ألوين، رافي كاسيدي، اريان لابد. مشاهدة ممتعة.