الظن الأسود.

(إن شئت أن يسود ظنك كله فأجله في هذا السواد الأعظم) كان العرب يقسمون الناس إلى قسمين الأحمر والأسود، والأحمر يعنون به البياض والأسود ماعدا ذلك. ومعنى هذا أن هذا الذي قاله أبو تمام يشمل معظم العرب؛ لأنهم سمر. وأبو تمام يعتبر أن (الزمان مغفل) ومن يقرأ ديوانه، ودواوين غيره من الشعراء الكبار يجد ألوانا من هذا التعبير عن مقتهم للآخرين واضحا، وأظن أن دعبل الخزاعي قد فاق غيره في هذا المقت، ولكن المتنبي فاق الجميع بقوله: (وما كان شعري مدحا له ولكنه كان هجو الورى) احتقار الشعراء للآخرين نجد له مبررا؛ هو وجودهم في ظرف يرغمهم على مدح من هم أقل منهم معرفة وطموحا، وقد أوضح ابن الرومي في قصيدة تفصيلية ــ كعادته ــ سبب حقد الشعراء. ولكن الذي يفتقد المبرر، وينافي الأخلاق هو عداء أصحاب المعرفة مثل ابن رشد والعشرات من أمثاله، و من يسمون: (أهل الحل والعقد) لغيرهم من البشر، وقد جعل الغزالي عنوان أحد كتبه (إلجام العوام عن علم الكلام) وواضح ما في كلمة (إلجام) من إزالة للفرق بين الإنسان والحيوان. ولم يكتف بهذا، بل قال: (إن لفظ العامي الذي يجب إلجامه يشمل الأديب والنحوي والمحدث والمفسر، بل والمتكلم النظار لنفسه) وهنا يصل القارئ إلى السؤال: ترى من هؤلاء الذين خصهم الله بالمعرفة في نظر الغزالي؟ ولن يجد جوابا غير أنهم ملائكة؟ ويقال في محاولة بائسة لتبرير هذا الموقف: إن حجب المعرفة عن السواد الأعظم إنما هو لحمايتهم من الانحراف العقدي. وإذا كان هذا مبررا فمعناه أن الأفضل ترك التعليم، وإغلاق معاهد المعرفة. إن العنصرية، بما لها من دلالة تفضيلية متعالية، تمشت مع التاريخ عند جميع الأمم، وحتى الأمة الواحدة يتفشى فيها هذا التمييز المقيت تفشيا صادما. أما عندنا، فنحن لا نزال نحمل نفس الداء، ظاهرا كان أو مقنعا، ولا تزال كلمات التنابز بالألقاب شائعة على الألسن في بعض الأوساط الاجتماعية الواسعة. إن العامل في بيوتنا، من أي بلد كان، حتى لوكان من بلد متقدم، نعامله باحتقار، ومعنى هذا أننا نقيّم الإنسان لا لذاته ومواهبه وعطائه للمجتمع، بل لما يملك، ونعيد ولكن بهمس، وبلا خجل الكلمة الكلاسيكية: (قل لي كم تملك أقل لك من أنت)