التنافس والتباغض..دروس من التاريخ.

لطالما شَكَّل التنافس بين المدن والدول والشعوب المتجاورة ظاهرة طبيعية في تاريخ البشرية. فهذا التنافس ينطلق بتأثير عوامل متعددة، مثل السيطرة على الموارد الطبيعية، والنفوذ السياسي، وقد يكون له أبعاد دينية ومذهبية. أخذ هذا التنافس أشكالًا مختلفة، تراوحت بين الصراعات المباشرة، والتنافس الاقتصادي والتجاري، والتسابق نحو تحقيق الريادة في مجالات الثقافة والعلم والتكنولوجيا. البشر يفعلون الأمْرَين معًا – التنافس والتباغض - لكن الفارق بينهما هو النية والأسلوب. فالتنافس يسعى لتحقيق الأفضل، سواء في العمل، أو الرياضة، أو غيرها، لكنه يكون بشرف وأخلاق. والتنافس الإيجابي يحفز الناس على الإبداع والتطوير، وهو الذي يجعل المجتمعات تنمو وتزدهر. بينما التباغض ترجمة شعورية لمشاعر سلبية تنشأ عندما يكون هناك ظلم، أو سوء فهم، أو اختلافات حادة في القيم والمعتقدات. في الحياة الواقعية، نجد مزيجًا من الاثنين. بعض الناس يتنافسون بروح رياضية، بينما البعض الآخر قد يقع في فخ البغضاء بسبب الطمع أو الغيرة، و الفرق يكمن في كيفية تعامل الإنسان مع الاختلاف والتحديات. في اليونان القديمة، شكّل التنافس بين “أثينا” و”إسبرطا” أحد أبرز مظاهر الصراع بين هاتين المدينتين المتجاورتين، كان ذاك الصراع قائمًا على اختلاف النظامين السياسيين والاجتماعيين في المدينتين؛ حيث كانت “أثينا” مدينة تهتم بالفلسفة والفنون، بينما كانت “إسبرطا” دولة غنية تُرُكِّز على التجارة، وعلى القوة الحربية والانضباط الأمني، وقد أدى هذا التنافس إلى الحروب البيلوبونيسية (431-404 ق.م) التي انتهت بهزيمة “أثينا” وتحول النفوذ إلى “إسبرطا. لكنها تسببت في إضعاف العالم اليوناني أمام الغزو المقدوني لاحقًا. شهد العالم القديم صراعًا مستمرًا بين “الإمبراطورية الفارسية” - الإخمينية ثم الساسانية - و”الإمبراطورية الرومانية” ومن بعدها “البيزنطية” كان هذا التنافس جيوسياسيًا بامتياز، حيث تنازعت القوتان على مناطق النفوذ في “الشرق الأوسط” وخاصة في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين. قبل الإسلام، كانت القبائل العربية تتنافس على الموارد الطبيعية – خاصة المراعي والكلأ والمياه - والمكانة والسلطة، ومن أشهر الصراعات حرب البسوس بين “قبيلة بكر” و” قبيلة تغلب” والتي استمرت أربعين عامًا بسبب مقتل ناقة! وكذلك حرب داحس والغبراء بين “ قبيلة عبس” و”قبيلة ذبيان” التي نشبت بسبب سباق خيول. وبعد ظهور الإسلام، شهدت “مكة المكرمة” و”المدينة المنورة” نوعًا من التنافس، خاصة بعد أن أصبحت الأخيرة مقرًا للنبي محمد ﷺ وعاصمة سياسية للدولة الإسلامية الوليدة، بينما استمرت “مكة المكرمة” مركزًا اقتصاديًا هامًا. ومع فتح “مكة” في عام 8 هـ/630م.، زال التوتر المباشر بين المدينتين، لكن “مكة المكرمة” احتفظت بمكانتها الدينية بينما بقيت “المدينة المنورة” مركزًا سياسيًا وعلميًا مميزًا. في “العصر العباسي” كان هناك تنافس بين مدينتي “بغداد” و “دمشق” حيث كانت “دمشق” عاصمة لـ “الدولة الأموية” لكنها فقدت مكانتها السياسية عندما أسس العباسيون “بغداد” كعاصمة جديدة لهم في عام 762 م. وقد تميزت “بغداد” بأنها مركز علمي وثقافي واقتصادي مهم، مما جعلها تتفوق على “دمشق” وقد ظل هذا التنافس قائمًا لفترة طويلة بين المدينتين من حيث التأثير السياسي والاقتصادي والثقافي. من الأمثلة على التنافس الدولي ذلك التنافس الطويل الذي احتدم بين “مملكة إنجلترا” و” مملكة فرنسا” والذي تجسد في حرب المئة عام (1337م -1453م)، كما استمر التنافس الاستعماري بينهما في القرون التالية، خصوصًا في أمريكا الشمالية والهند وأفريقيا. وفي العصور الوسطى استمر التنافس بين القبائل البدوية، في بعض المناطق، سواء على المراعي والكلأ، أو السيطرة على الطرق التجارية، أو النفوذ السياسي. وعلى الرغم من أن الدولة القطرية الحديثة قللت من غلواء التنافس بين المدن، إلا أن شكلًا من أشكال المماحكات القبلية لا يزال يتمظهر في بعض المناسبات والمجالات، ولكنه على نطاق ضيق ومحدود، يحصل بين أفراد معينين، ولم يصل إلا مرحلة الظاهرة. في العصر الحديث، كان التنافس بين “الولايات المتحدة الأمريكية” و “الاتحاد السوفيتي” بعد الحرب العالمية الثانية واحدًا من أبرز أشكال الصراع الدولي. تجلى هذا التنافس في سباق التسلح، وسباق الفضاء، والحروب بالوكالة مثل “حرب فيتنام” و “ حرب أفغانستان” والصراع الأيديولوجي بين الرأسمالية والشيوعية. انتهت الحرب الباردة رسميًا بانهيار “الاتحاد السوفيتي” عام 1991، مما أعطى “الولايات المتحدة الأمريكية” الهيمنة العالمية. وفي العصر الحديث – أيضًا - استمر التنافس بين المدن، ومن أبرز الشواهد على ذلك التنافس بين مدينتي “كولونيا” و “بون” في “ألمانيا” حيث سمي المطار بينهما “مطار كولن بون “والتنافس بين مدينتي “دالاس” و “فورت وورث” في “الولايات المتحدة الأمريكية” حيث أقيم مطار دولي بينهما وسمي “مطار دالاس فورت وورث”. التنافس بين المدن والدول والقبائل المتجاورة، بل بين الأندية الرياضية في مدينة واحدة يعتبر ظاهرة طبيعية، ويجب ألَّا ينظر إليه بطريقة ساخرة وتهكمية، ولا يُعَد من التباغض، فهو حالة حتمية تقع بين الكيانات، وليس بين السكان والشعوب، فأكثر المصاهرات والقرابات الأسرية تكون بين أهالي المدن والقبائل المتجاورة. وقد أسهم هذا التنافس في تطور الحضارات وتعزيز الابتكارات، وتقدم المدن. ومع تطور المجتمعات الحديثة، تَحَوَّل التنافس من حروب عسكرية إلى منافسة اقتصادية وثقافية وعلمية، مما يبرز أهمية الاستفادة من هذا التنافس لتحقيق التقدم بدلًا من الصراع والشقاء.