حقائق وأساطير!

                                     -١- يفرّق الدارسون، في النقد الحديث، بين الأسطورة والخرافة، فيرون أن الأسطورة ذات ارتباط بأصل ديني، باعتبار الدين ممارسة طقوسية، خلافا للخرافة الخالية من هذا الارتباط، وعليه فالأسطورة حكاية مرتبطة بأصل ديني والخرافة حكاية من بنات الخيال العجائبي. أما الحادثة فهي الأصل الحقيقي للحدث وهي من الحقائق التي وقعت فصارت أصولا تختلف عليها الشعوب فتروي حولها أخبارا بعضها صحيح وبعضها من الزيادات اللاحقة، ثم مع التراكم الزمني ارتحلت في صيغ مختلفة بين الأمم والثقافات، وهذا هو سرّ التشابه بين الأساطير في بنيتها رغم اختلاف الحكايات التي تنسج حولها. وفيما يخص الأساطير التي لها أصول دينية وذات جذور مرتبطة بوقائع وأحداث كونية يمكن الإشارة إلى الخلط الذي يقع في تلقّي القصة القرآنية مما يتعلق ببدء الخلق وحادثة الطوفان، مثلا، وغيرها من القصص القرآني والنبوي، حيث يصفها بعضهم بأنها أساطير اعتمادا على النموذج الغربي في التلقي، إذ يدرج مثل هذه القصص والأحداث ضمن الأساطير الدينية، وهي حقائق وأحداث كونية. كما يمكن الإشارة إلى أن القرآن نَخَلَ هذه القصص ونقّاها من الزيادات والإضافات وأعادها إلى سيرتها في حقائقها الأولى، فالقرآن يقصّ أحسن القصص، ووصفه الله بأنه القصص الحق، فما يقصه من أحداث وقعت علىً وجه الحقيقة لا على وجه التخييل ولا على سنن الحكي الأسطوري، وكذلك ما ورد في السنة النبوية الصحيحة، ولا مجال فيما يخص هذين المصدرين التشكيك فيما صدر عنهما من أخبار وقصص تتعلق بالبدايات الأولى للتكوين وبناء العالم.                                   -٢-   وقد جاء القرآن الكريم ليعيدنا، من خلال قصصه وأخباره عن بداية الخلق وعن الأمم الماضية بتركيزه على جوهر الأحداث وعظاتها، إلى الفطرة الأولى الخالصة من شوائب الثقافات البشرية في حكاياتها وأساطيرها؛ فالقصص والأحداث والأخبار التي يقصها القرآن  وقائع قد نجد أصولها في ذاكرة كل الشعوب، ولكنها تغيّرت وتحوّرت في امتداداتها من ذاكرة إلى ذاكرة ومن أمة إلى أمة.  وقد وقع في الخلط بين الحادثة القرآنية والأسطورة عددٌ من المفكرين الذين تأسس خطابهم، من أصله، على النموذج الغربي في تلقّي العالم وتأويله وصار عندهم ما يشبه المسلّمة أن كل خبر أو حادثة تتعلق بأصل الخلق وبدئه هي من أساطير القرون الأولى، لا فرق  عندهم في هذا بين ما ورد في القرآن وما ورد في الملاحم،  وكأنهم يعيدون حجة المشركين الأولى كما هي، جذعة من جديد،  حين سمعوا القرآن:{وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} فأجابهم القرآن بقوله:{قل أنزله الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما}. ومما لا شك فيه أن النموذج الغربي الذي هيمن على الأعمال العلمية والخطابات الفكرية بمنطقه الصوري ورؤيته المادية الصرفة قد أشاع هذا التفكير وأفضى إلى هذه الطريقة في التلقي. ولذلك لا يصح أن نطلق على قصة بدء الخلق أسطورة، ولا على حادثة الطوفان مثلا، استنادا إلى التلقي الغربي، ففي هذا تكذيب لهذه الأخبار القرآنية وخلط لها بما حوّرته واختلقته الشعوب في ذاكرتها وثقافاتها التي ركّبت من الأصول الأولى لحقائق الكون حكايات وأساطير جعلتها رافدا ثقافيا لذاكرتها وزادا لخيالها الشعبي في مواجهة الوقائع المادية والظواهر الكونية.