التشكيلي الجزائري محمد إسياخم..

“بين الألم والإبداع: رحلة مع الذات واللوحة”.

“كانت يدي اليسرى تدمي... لكنني لا أشعر بالألم كما كان يظن الآخرون، بل كنت أعيش صراعًا أعظم، صراعًا بين الذات وبين الموت. فقدت يدي، لكنني لم أفقد قدرتي على العيش. بعد الحادث، أصبح الرسم بالنسبة لي ليس فقط وسيلة للتعبير عن نفسي، بل كان العلاج الوحيد الذي منحني القدرة على التنفس وسط تلك الآلام. لو كانت هذه اللوحات تستطيع التحدث، لكانت أخبرتكم كيف أنني رسمت كل ألم، كل نزيف، وكل صرخة في أعماقي... كيف أنني دفعت الثمن ليس فقط في جسدي، ولكن في روحي أيضًا.” كان محمد إسياخم في السادسة عشرة من عمره عندما أخذت الحرب من يده ما لا يُمكن تعويضه، فقد فقد ذراعه اليسرى في حادث انفجار قنبلة يدوية قذفتها الحرب العالمية الثانية في طريقه. لكن كان هناك ما هو أكثر من الجرح الجسدي الذي يعانيه، ففقدانه لذراعه لم يكن مجرد ألمٍ جسدي فحسب، بل كان تصدعًا في كيان داخلي كان يطمح لاحتضان كل معاناته وأحلامه في هذا العالم المظلم. تلك اللحظة الحاسمة التي قضت على جزء من جسده كانت بداية رحلة جديدة له، رحلة طويلة من الفن المعبر عن ألم جسدي، ونزيف نفسي مستمر. في كل مرة كان يمسك فيها فرشاته، كان ذلك بمثابة فعل تعبير عن معاناته الشخصية، وكأنَّ كل لوحة كانت تروي قصة الألم الذي لن يُشفى أبدًا. “كيف تقدر اليد التي فقدتها على الرسم؟” كان يسأله العديد من معارفه وأصدقائه. كانت إجابة إسياخم دائمًا: “لم أرسم بيدي فقط، بل رسمت بكل مشاعري، بكل ألمي، بكل ما اختلج في داخلي من غليان وحزن... رسمت بتلك الذاكرة التي تتألم في جسدي وفي روحي”. لم يكن إسياخم فنانًا مجردًا من الحياة، بل كان فنانًا انبثقت أعماله من قلب معاناته الشخصية وأوجاع شعبه الذي عاش تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، لذا كانت لوحاته ليست مجرد رسومات، بل روايات عن أزمنة مظلمة وأحداث مأساوية لا تزال حية في ذاكرة الشعب الجزائري. فن التعبير عن الذات: الرسومات كصرخات من الداخل كان الفنان محمد إسياخم يرفض تمامًا أن يصنف نفسه ضمن المدارس الفنية التقليدية كالتصويرية أو التجريدية. في حديث صحفي له قبل وفاته، قال: “لا يروق لي أن أصنف في خانة التصويريين أو التجريديين، لتبسيط الأمور سأقول أني فنان تعبيري.” هذا التصريح يعكس عمق أسلوبه الفني الذي كان يرتكز على التعبير عن الذات بشكل غير تقليدي، حيث لم يكن هدفه أن يخلّف وراءه مجرد لوحة جميلة، بل كان يرغب في نقل صرخات الألم التي عايشها. أعماله كانت تتجاوز فكرة الجمال الفني المعتاد، بل كانت تحاول كشف المستور، وكان كل رسمة منه أشبه بمعركة حقيقية، محاولة للانتقام من الألم. لوحات إسياخم كانت مليئة بالوجوه القاتمة، عيون مشوهة، وألوان داكنة تعكس حالة من الحزن العميق. هذه الوجوه لم تكن مجرد تجسيد للألم، بل كانت أيضًا تمثيلًا للصراع الداخلي الذي كان يعصف بالجزائريين في فترة الاستعمار. في لوحاته، كانت الألوان تتصارع فيما بينها، بعضها كان مظلمًا قاتمًا يعكس الحروب والمآسي، بينما كان البعض الآخر أملًا وحلمًا في تحقيق التحرر. الفن والثورة: صوت الجزائر المقهورة إسياخم لم يكن مجرد فنان يعبر عن مشاعره الشخصية، بل كان صوتًا صادقًا للثوار والمجاهدين الذين ضحوا بكل شيء من أجل تحرير الجزائر. لوحاته كانت بمثابة وثيقة حية للمعاناة الجزائرية تحت الاستعمار الفرنسي. كان يعتقد أن الفن لا ينبغي أن يكون منفصلًا عن معاناة الناس، بل يجب أن يتناغم مع واقعهم ويحكي قصتهم. في لوحات إسياخم، نجد تلك الوجوه الثائرة التي لا تعرف الخوف، والأيدي التي تمسك بالأسلحة وتقاتل في سبيل الحرية. لكن لم يكن فن إسياخم مقتصرًا فقط على التعبير عن الحرب والنضال، بل كان أيضًا محاولة لتوثيق الحياة اليومية للمجتمع الجزائري. كانت لوحاته تعرض مشاهد من الفقر والنزوح، وهي علامات ظلت سمة من سمات الفترة الاستعمارية التي عاشها الشعب الجزائري. كان إسياخم يرى أن هذه الصور لم تكن مجرد تمثيل للعنف، بل كانت أيضًا دعوة للتغيير، دعوة للثوار والمجاهدين الذين يعيشون في قلب معركة التحرير. أعماله الفنية: شاهد على تاريخ الجزائر إسياخم ترك وراءه إرثًا كبيرًا من الأعمال التي أصبحت اليوم شاهدًا على تاريخ الجزائر وحروبها. من بين أشهر أعماله، نجد لوحات مثل “أمومة”، “شيخوخة”، “النزوح”، و”المكفوفين”. هذه الأعمال لا تقتصر على كونها مجرد لوحات فنية، بل تمثل سجلًا حيًا لمعاناة الشعب الجزائري، وأصبح من خلالها إسياخم شاهدًا حيًا على تلك المرحلة التاريخية المظلمة. أعماله لم تقتصر على الرسم فقط، بل تعدتها إلى تصميم الديكورات السينمائية للأفلام الجزائرية مثل “الطريق” و”غبار يوليو”، التي كانت تعرض معاناة الشعب الجزائري تحت الاستعمار الفرنسي. كان إسياخم جزءًا من الجهد الثقافي الكبير الذي حاول إحياء الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري، حيث كانت لوحاته جزءًا من هذا المجهود الثقافي الثوري. إرث خالد: من الجزائر إلى العالم في عام 1980، حصل إسياخم على جائزة “سيمبا الذهبية” التي تمنحها منظمة اليونسكو للفن الإفريقي، وذلك تقديرًا لإبداعه في المجال الفني وإسهاماته التي تجاوزت حدود الجزائر. بعد وفاته في 1 ديسمبر 1985، ظل إرثه حيًا في العديد من المتاحف والصالونات الفنية حول العالم، حيث تُعرض أعماله في متاحف الجزائر والعالم العربي، وتظل تؤثر في جيل جديد من الفنانين الذين يستلهمون من أسلوبه الفريد في التعبير عن الذات والمجتمع. وقد أقام متحف الفنون المعاصرة في الجزائر في عام 2010 معرضًا كبيرًا لأعماله بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لرحيله، حيث زار المعرض أكثر من 30,000 شخص. هذا المعرض لم يكن مجرد استعادة لإرث فني، بل كان احتفاء بتلك الرسائل الإنسانية التي تحملها لوحات إسياخم.  رحلة مع الألم لا تنتهي لقد عاش محمد إسياخم حياته، كما عاش لوحاته، محملة بالمعاناة والألم، لكنه في نفس الوقت ترك إرثًا فنيًا خالدًا. من خلال فنّه، علمنا أن المعاناة قد تكون الحافز الأقوى للإبداع، وأن الألم يمكن أن يتحول إلى رسالة، بل إلى شهادة حية على التاريخ. لوحات إسياخم ليست مجرد ألوان على قماش، بل هي صرخات صامتة تأبى أن تُنسى. وإذا كانت لوحاته تتحدث، فإنها تقول: “أنا هنا، موجود، رغم كل شيء”.