في ديوان «مزدحمٌ بالفراغ» للشاعر علي الشيخ ..

قراءة العتبات والتحرر من مجاز الوهم .

تعتبرُ العناوين إحدى أهم العتبات النصية، إذ تهدفُ إلى إعطاء فهمٍ أفضل للعمل الأدبي، وبالنسبةِ للدواوين الشعرية تزداد أهميتها؛ بسبب كثافة وإيحائية العبارات، حيثُ له دور كبير في كشفِ القصد وإبانة الدلالة، وهذا ما يمكن الوقوفُ عليه في ديوان (مزدحمٌ بالفراغ) للشاعر علي الشيخ، الذي نوَّع في عناوينه حتى بلغَت تسعة وسبعين عنواناً، بما فيها العنوانُ الرئيس للديوان، وهو عنوان مكرَّر مجلوبٌ من إحدى القصائد. التشابهُ بينَ العنوانِ الرئيس والعنوان الفرعي الذي يكُون في إحدى القصائِد؛ يشير إلى مركزية القصِيدة وأنها أكثرُ أهميَّة من البقية، وبالتالي تستدعي مزيداً من الاهتمام، وهو ما يمكن إدراكُه بسهولة من خلال اكتشافِ ارتباطها بالقصائد الأخرى الموجودةِ في الديوان، فالثيمة الأساسية تدورُ حول “الفراغ”، إما بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، فمن القصائدِ المتصلة به مباشرة: “للريح عدم آخر – ارتداء الفراغ – هوامش العدم – شيء لا تراه”، ومن القصائدِ المتصلة به بصُورة غير مباشر: “أخيراً سأكذب – ينسى قليلاً – رائحة الكلام – ملائكة الكلام – إذا اعتذر الكلام”. ثمَّة إذن ارتباط وثيقٌ بين العدمِ والفراغ؛ لكونهما يحيلان على مجهولٍ واحد هو الكلامُ (وليس الصمت)، وهو الأمرُ الذي حاوله الشاعرُ في جميع قصائده، إذ ظلَّ يدور في فلك ثنائية الصمت والكلام، أو الفراغ والازدحام، وكأنَّ العنوان الرئيس تضخَّم وغطَّى جميع القصائِد، ثم عمل على صناعةِ معانيها ودلالاتها، حين وضعَ المتقابلات إلى جوارِ بعضها، فإزاء “شيء لا تراه” يأتي “أخيراً سأكذب”، وإزاء “ارتداء الفراغ” تحضرُ “رائحة الكلام”، وإزاء “هوامش العدم” تأتي “ملائكة الكلام”، وهو ما يؤدِّي إلى أن يكون “للريح عدمٌ آخر” “إذا اعتذر الكلام”، ولم يستطع التعبير بشكل كاشفٍ عما في داخل النفس. ثنائيةُ الفراغِ والازدحام ترسمُ الدلالة وتكشف المخبوء، فالمتلقي حينما يستمع بإنصاتٍ إلى أصوات القصائد، يكون هدفُه الوصول إلى المعنى؛ ما فتح شهيَّة الشاعر، وجعله يمارسُ لعبة الـ”قنعة”، فمنذُ البداية امتنعَ عن إعطاء المعنى مجاناً وبلا مقابل، مطالباً القارئ بالبحث واستكشاف “أسباب الخيال”، مقسماً أمامه “لأذبحنَّ خيالي” حينما تعثرُ على الأسباب وتمسك بها، وهذا تحدٍّ للمتلقي؛ بهدف إثارته ذهنيًّا وسلوكيًّا ودفعه للبحث والتساؤلِ والاكتشاف. لعبةُ الأقنعةِ انتهت إلى تحدٍّ بين الشاعر والمتلقي، لكن تأثيراتها امتدَّت إلى الطرفين، إذ أن كلاهما خاضعٌ لقوانين اللغة، وبما أن المتلقي سيغرقُ في البحث والاكتشاف، فعلى الشاعر إذن أن يُعيد كتابة قصائده؛ كي تتناسبَ مع اللعبة اللغوية التي أسَّسها، وهو ما قام به حينَ انتقل من حالةِ الفراغ في “لم أكن أحداً”، إلى حالة الازدحامِ والامتلاءِ في “يمشي وراء فمي”؛ ما يعني أن قصائِده باتت “انعكاسـ”ـاً لداخله المتشظِّي. سببُ ممارسةِ اللعبة اللغوية يعود إلى “غِواية الشعر” و”خَطيئة الشعراء”؛ حيث يراهما الشاعر أهمَّ عاملين من عوامل التأثيرِ على الكتابة، حينما تصدر عن قلبٍ شفيف رقيق مليء بالمشاعر والأحاسيس، ولأجلِ أن لا ينحرفَ في كتاباته، ويتيهَ عن المعنى والدلالة، يجدهما يطلبانه دوماً بامتلاك “رؤيا” لما يجري في الوجود، حتى لا يظلَّ غارقاً في “مجاز الوهم”. الحياةُ مزدحمةٌ بالكثير من الوجود، لكنه وجود أشبهُ بالعدم، حينما لا يقدِّم إضافة إلى الذات؛ ما يجعلُها ممتلئة باللا شيء، فالفراغُ كبير ولا بد من مواجهته والتغلُّب عليه، وهنا يأتي العنوانُ الواصف (مزدحمٌ بالفراغ)؛ كي يشير إلى هذه الأزمةِ الحياتية الخانقة، التي تستهلكُ الروح وتعبثُ بالنفس.