في ديوان (نبض) للشاعر زكي السالم..

الإيقاع الشعري والدلالي والسمات الجمالية.

عن العنوان كدالّة : عنوان المجموعة بحد ذاته انزياحٌ غارقٌ بالدلالات وتوظيفه مجازٌ يتكيء على ملامسة الوجدان عبر هذه المفردة المشحونة بالتجدد والإيقاع ولو قلنا أنه أراد بها مجازياً نبض الكلمةِ شعراً ،فان للحقيقة في ذلك نصيباً، فهو نبض يحتمل الحقيقة والمجاز إذ يؤلف بين المادي والمعنوي. ( نبض الفكرة ) من خلال 25 نصا تنوعت أغراضها البلاغية ،يمنحنا الديوان توليفة جمالية مكتوبة بلغة شعرية دقيقة لايطغى اشتغال الشاعر فيها بالشكل على حساب المضمون، ولا تغفله الفكرة عن حداثة الصورة، بل كانت رشيقة تعرّف عن ذاتها بذاتها بتشكيل ملامح خاصة. ومن السمات البارزة في الديوان ثراؤه المعجمي الذي ابتعد به عن التكرار مشكّلاً افاقاً أكثر اتساعاً، بين نص غزلي إلى آخر ينبض بالوطنية والعروبة، فلم ينحصر في زاوية محددة بل أجاد انتقالاته بين عدد مختلف من الأغراض الشعرية . كما كان لرموز القران لمسةً بارزة في خطابه الشعري كما في نص (يوسف في غيابة الجب ) فهو يضع الرمز في صياغة مبتكرة بمعنى يقبل تأويلات عدّة، فلا يقترِح معنى محددا ، بل يجعلهُ إسقاطاً متناسباً مع قصصٍ شبيهة، تتناصّ مع هذا الرمز القرآني بأوجه مختلفة يقول فيه: وربىً تُطمْئنُ بعضَها أن احتلال القحطِ يتلوهُ انقلابٌ أبيضٌ سيقوده يومٌ مطير لكنّ هذا الأبيضَ المرجوّ لا يأتي ولن يأتي فكل خيوله شاخت وأقعدها المسيرْ ) إنها قصة الخذلان التي تتكرّر، وهذا جانب من قصة يوسف تلك القصة التي لا زالت تزخر بالأسرار والعبَر ، فكل شاعر ينظر إليها ويتناولها من زاوية مختلفة . وقد استخدم الشاعر معجم الحب بكثافة لينتقل ذلك النبض إلى المتلقي بأسلوب مرهف. يقول ابنُ طباطبا، الذي كان من أنصار الصِّدق بجميع أشكاله، فقال: إنَّ المعاني “يتضاعف حُسن موقعها عند مستمعها، ولا سيما إذا أُيِّدَت بما يجلب القلوبَ من الصِّدق عن ذات النفس، بكشف المعاني المختلِجة فيها، والتَّصريح بما كان يُكتم منها ) وبالإضافة إلى الإيقاع الموسيقي للأبيات نرى بها إيقاعا داخليا، يعلو ويهبط بمشاعر القاريء كما في قوله : أحبك في انفلات العشق لما يمنيني فأرفض أن أكونه وفي نزقٍ أكتّمه وطيشٍ أخبئُه فليتك تفضحينه وليت فؤادكِ المملوء حباً يعاتبني ويبسط لي شجونه هي لغة متوشّحة بلون المعاناة غنيّة بالفكرة وضدّها ، نلمس ذلك بوضوح حين نقرأ الثنائيات الضدية في كثير من الأبيات، ولعله يشاكس القاريء ببعض الفراغات التي تركها الشاعر مفتوحة لخيال القاريء، أو لعله أسلوب لصياغة هالة من الغموض فلا يشارك المتلقي إلا في مساحة محدودة . (نبض الصورة ): كل نص اتخذ لغته الخاصة، فمثلاً -في نص( ثلاثيات من حانة العشق) الذي يعود بذاكرتنا في شكله إلى فن الرباعيات كرباعيات الخيام وطلاسم إيليا أبي ماضي، جعل من النص رحلة بحث روحية فكل ثلاثية تصف حالة وجدانية خاصة ، وعلى إيقاع بحر الهزج الذي منح النص صبغته الخاصة من الاضطراب والتنغيم حيث ترتفع وتنخفض نبرته بين مقطع وآخر ليكشف أحاسيسا عميقة ، يبدؤها في المقطع الأول بتناص مع السرد القرآني من خلال تضمين بعض المفردات: قطعت دروبك اللهثى ولم أبصِر سوى تعبي ولم آنس بجنب هواكِ ناراً تحتوي لهبي فعدت عصاً لأوجاعٍ أهش بها على غضبي وهو تناص يتكامل للكشف عن أبعاده الجمالية مشعلاً فتيل التساؤل حول مصير هذا العشق المتوهّج، لينتقل إلى المقاطع التالية من النص محمّلاً بالفضول، ويقول في النص ذاته: وجدتك في أعالي الطور نارا وقدها فزعي فسرت إليك منحطماً وآمالي تسير معي ولما لم أجدك هدى خنقت الآه في وجعي (نبض العشق ) في نص ( زائرة الفجر ) الذي يقترب من المسرحية الشعرية، لكونه قائما على الحوار وهو نص يحمل كاريزما خاصة وفيه لون من الجرأة ، يقول في بدايته : جاءت تذكّرني الهوى العذري في ليلةٍ قمراء في الفجرِ طرقت عليّ الباب في قلقٍ وتلفّتت من شدّة الذعرِ ويقول عن نقاب هذه الزائرة: كم كنت أرغب أن أمزّقه قِطعاً وأكشفَ وجهها الخمري نلاحظ التمرد الذي يمنح النص تأثيراً خاصاً، حين يستخدم الشاعر أحد التابوهات الاجتماعية ويوظّفه من أجل أحد أغراضه الشعرية. فالقصيدة هي(حكاية عاشقين) لكن نهايتها المفتوحة تمنحها أوجهاً عديدة من التأويل. (نبض الإنسانية) وقد خصّت المجموعة عدداً من النصوص بنبضٍ يلامس وجدان كل عربي، من خلال تناول تلك الهموم المشتركة التي تجري في دماء العروبة، سواءً كان ذلك في قالب التفعيلة أو العمود، كما في نص ( همسات في سكون الانتفاضة) التفعيلي حيث يستهلّه بالمشاعر الحامية فيقول (اقذف ففي كفيك يولد كبرياء) ويموت ذل طاعن في السن قد عشنا به خمسين عاماً مثخنات بالبكاء ويؤرخ بعض الأحداث العالقة في الذاكرة العربية فيقول في مقطع آخر من نفس القصيدة : اقذف ففي المقلاع آلام من الذكرى البغيضة وبه حنين جارف للثأر من أيار من نفس محطمةٍ مريضة من فكرة التقسيم تُرمى كالفُتاتِ على طريق الثأرِ إلى آخر النص أو كما نص (غزة ) الذي يبدؤه بلغة نازفة منذ المطلع : غزة وتنتفض الجراحُ تئنّ من هول الجِراح والمتعبون من القذائف والتأوّه والرماحِ على الرماح إنها لغة تضرب في جذور الإنسانية تنقل أحاسيسنا بفنّية عالية حيث توقّف الشاعر بإحساسه موثّقاً ومُؤرّخاً لتلك الأحداث والمآسي الثقيلة على الإنسانية في عمومها فمابالك بقلب شاعر مرهف ! وفي نص (حرقة وأمل) نستشعر تأثيراً نفسياً ووجعاً جسيماً يجسّده حول الشهيد محمد الدرة في خطابٍ يتقمص به أحاسيس والد الشهيد ويقول فيه: بنيّ ياجرحي الدامي على كبدي بأي ذنب لك الأعداء قد نكأوا بنيّ ياقطرة العمرِ التي نضبتْ مازِلتُ أرقُبها إذ كظّني الظمأُ الجدير بالذكر أن جرح الدرة تجدد في استشهاد والده الشهيد جمال بعد 24 عام من شهادته في الأحداث الأخيرة في غزة . النص يتناول رمزيات عدة ويتناول أسماء بعض المجازر الكبرى، ويختم النص بانزياحات بليغة في بيت يقول فيه : سيقتل الجدي ذئباً في تحفُّزه ويصرعُ الليث في إقدامه الرشأُ (نبض الحنين) في نص (نصفي للشهارين) نص يفوح برائحة الحنين والوفاء للأرض التي نشأ فيها و يصفها بلغة متوقدة بالحب لتلك التفاصيل، المحملة بعبق الفل ونضارة الزيتون وحلاوة التين وطيب الريحان ثم يقول مفصّلا تلك المشاعر : لولا بني معنٍ بالروح عالقةٌ تخط من أزلٍ في اللوح تكويني لكنتِ أنتِ ولا أحدٌ سواكِ رعى صلصالة الخلق من مائي ومن طيني ففلكك اليوم مشحون بيونسه لا تدحضي آبق الرحمنِ ذا النونِ وفي اعتراف بأن الحب يتنازعَ قلبه بين القريتين يقول في بيت جميل يختم به النص؛ تقاسم الحب أعضائي مناصفةً نصفٌ لمعنٍ ونصفٌ للشهارينِ. كذلك نجد لنبض القصائد الإخوانية جمالاً تنفرد به المجموعة في عدد من النصوص، كمفكرة العوامي وتوأم مودة . المجموعـــــة تستحق التأمـــــل والاستزادة من هذا النبض لثرائها الجمالي المتفرّد