
“المكان في الرواية ليس هو المكان الطبيعي أو الموضوعي، وإنما هو مكان يخلقه المؤلف في النص الروائي عن طريق الكلمات، ويجعل منه شيئًا خياليًا.” مجلة نزوى تأتي رواية حكايتان من النهر للروائي عبد الله ناجي في مئتين واثنتين وستين صفحة من القطع المتوسط، عن دار رشم، لتعكس المتخيل للمكان ما بين جدة ومكة في مخيلة الروائي، والذي قد يكون واقعيًا لدى القارئ المتلقي، لكنه يحمل من الخيال الروائي قدرًا كبيرًا، عطفًا على المعايشة التي تحمل النص كثيرًا من الذكريات والحنين. فتأتي الرواية مزدانة بمسحة من السحر تشد القارئ، وربما يقع في غرامها. تأتي حكاية إيمان وأحمد الحداد في تبادلية متزنة لتروي حكايتين من نهر الزمن، وربما لأن البحر في جدة يبتلع الحكايات، والنهر أكثر جودًا بها، وقع الاختيار على النهر بقصد تيار الزمن، وليس البحر الذي قد يكون أكثر تقلبًا وأشد توحشًا. أتت العتبة الأولى لتمهد لصوتين في الرواية، فيمكننا هنا الحديث عن تقنية تعدد الأصوات كملمح حداثي لكتابة الرواية. وربما التبس الأمر على القارئ في البداية ظنا أن الرواية من أدب الرسائل، ولكن في حقيقة الأمر، فإن تبادل الأصوات بين إيمان وأحمد كان همسًا في أذن القارئ مباشرة. كما أن وجود نصوص ومقتطفات من روايات أخرى، والركض المحموم الذي يدور داخل أضابير الرواية حول الكتابة والكتب والروايات، ووجود تيارين أو حكايتين متوازيتين داخل الرواية حتى يلتقيا عند نهايتها ليجريا في مجرى واحد، يجعل الرواية معاصرة وهي تستخدم عددًا من تقنيات الكتابة ما بعد الحداثية. أتى الزمكان في الرواية واضح الملامح، فرغم أن المكان قد أعطى إشارات لعدة أماكن أثناء السرد، كاليمن على سبيل المثال، لكنه ظل محصورًا بين جدة ومكة المكرمة. أما الزمان، فقد حُصر في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ولكن هناك امتدادًا خفيًا للزمن يمتد حتى تسعينيات القرن الماضي، وهو زمن يمتد من رواية الروائي الأولى منبوذ الجبل. يذكرني هذا برواية ليتوما في جبال الأنديز للروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، عندما تسلل ليتوما من روايته “من قتل بالومينو موليرو” إلى الرواية الثانية، تمامًا كما تسلل أحمد من رواية “منبوذ الجبل” إلى “حكايتان من النهر.” وتمامًا كما كان ليتوما داعمًا للسرد في رواية يوسا الثانية، أتى أحمد داعمًا للسرد في رواية “حكايتان من النهر. وربما يعود ذلك إلى أن الروائيين رأيا أن هناك بعض الحكي المحتمل لكلا الشخصيتين، فتسللتا إلى روايات أخرى. وبالعودة إلى روايتنا موضوع المقال، فقد جعل هذا من الزمن عنصرًا ماكرًا، وجعل الحكايات مرتبطة ومنفصلة بين الروايتين لعبد الله ناجي. فقد تُقرآن متصلتين ومنفصلتين في آن واحد، دون أن يحدث التباس في النص أو السرد. كُتبت الرواية بلغة وسيطة، مما يُطلق عليه اصطلاحًا لغة الرواية، لكن كانت هناك عدة ملامح لروح الشاعر في اللغة، حيث صعدت بنا في مقتطفات متباعدة إلى درجات عالية من اللغة الشاعرية السامية الجميلة: “أصبحت ممتلئة بالكلمات، محتشدة بالمعاني المجنحة التي لا تكف عن التحليق في عالمي الآخر. لم أكن أكتب، كنت أقرأ فقط، ربما لذلك ظل خيالي متحفزًا طوال الوقت، وظلت روحي محتشدة بالقصص.” “وبدأ عالمي يعود شيئًا فشيئًا. كنت سعيدة في تلك اللحظة. ومن يومها لم أعد إلى الكتابة، وعلى الرغم من غرابة الأمر وعدم إدراكي لتلك العلاقة بين الكتابة وتلاشي خيالي، فإنني شعرت بأن عليّ حراسة الكلمات لا تدوينها. الآخرون يكتبون، وعليّ أن أقرأ لأحرس قصص هذا العالم وحكاياته. وصرت أتخيل وحشة القصص وهي متروكة على الرفوف وفي مخازن الكتب، يغطيها الغبار، وتعبث بها الفئران وتقرض أوراقها، ثم يبدأ مدادها الأسود في الاختفاء، ويسيل من ذاكرة الزمن إلى قاع النسيان.” وربما من هذا الاقتباس، كانت الرواية تحتمل عنوانًا آخر وهو حارسة الكلمات. حملت الرواية صراعًا خفيًا بين جيلين في المجتمع السعودي: جيل متحفظ أكثر التزامًا، وجيل منطلق أكثر انفتاحًا وإصرارًا على الحياة. ورغم إلمام الكاتب بدقائق المجتمع السعودي الحجازي، فإن ثيمة الرواية الأساسية قامت على الفرد وليس المجتمع، من خلال قصة الحب المضطربة بين إيمان وأحمد، والصراع النفسي المعقد الذي عاشته إيمان بعد حادثة اغتصابها وهي طالبة في الجامعة. ثم التعقيد الذي أعقب ذلك في حياتها، وكأنها كرة ثلج تكبر كلما انحدرت نحو الأسفل. فجميع قراراتها التي تبعت حادثة الاغتصاب أتت متأثرة بها، وما تلا ذلك من تتابع في السرد كان امتدادًا لا نهائيًا لهذه اللحظة، مما جعل الرواية تحمل قدرًا كبيرًا من الألم والهم الإنساني في أوضح تجلياته. ربما لجأ الروائي إلى الفانتازيا في ختام الرواية لبث رسائله بعيدًا عن المباشرة، ولا يعد هذا جبنًا منه، بقدر ما في ذلك من حنكة تشجع القارئ على التفكير، حيث تأتي هذه التقنية من باب مشاركة القارئ في كتابة النص. أما النص الرمزي الذي جاء بصوت إيمان في افتتاحية الرواية، والذي تجاوز الصفحتين، فقد غرق في الرمزية وصعُبت دلالاته على القارئ، وغيابه لن يؤثر كثيرًا على النص السردي، رغم كتابته بلغة عالية. لكن إصرار الروائي على وجوده في الافتتاحية يجعلنا نحيله إلى المثل السوداني الشعبي “حمده في بطنه”. * روائي سوداني