هل قرأنا المعرّي؟

فَما لِلفَتى إِلّا اِنفِرادٌ وَوَحدَةٌ إِذا هُوَ لَم يُرزَق بُلوغَ المَآرِبِ المعرّي وكأننا بمقولة “شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء “أرحنا أنفسنا من عناء قراءة تجربة أبي العلاء المعري بحسٍّ وجداني رهيف؛ لأنّ الفلسفة قرينة العقل، والعقل يسبر الأغوار وهو أمر معقّد لا يحبّذه الكثيرون. وفي جلساتنا الأدبية مع عدد من أصدقائي الشعراء يندر أن تجد من يستشهد بأبيات للمعري، عدا أبياته: غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ وربما سمعتها من أستاذ جامعي أو طالب في المرحلة الثانوية. أعرف أنهم لا يغمطون شاعريته حقها!، لكنها مجرّد خطرات من باب التذكير في تجربة أحد أهمّ أعمدة الشعر والفكر العربي. أعرف أنني لست صاحب هذه الرؤية، وسبقني إليها الكثير من الأفاضل، لكنني أتحدّث كما أشعر حين أطالع ديوان العرب، وأتأمّل عصر أبي العلاء الذي اشتدّ به عود الأدب وذاع فيه شعر المتنبي، وأبي فراس، والشريف الرضي وغيرهم ، ولم ينل الرجل نصيبه وهو الأكثر وعيًا بمسرح الكون الكبير ! تشعر أحيانًا أنه ليس أضرّ على الشاعر من أبياته الطائرة التي يتناقلها الناس! فهي (مفتاح) إلى تجربته، وربما تكون (قفل) في ذات الوقت، والأصل فيها أن تكون نافذة للدخول لعالمه الشعري وتأمّله، لا أن نكتفي بحفظ أبياته وترديدها في المناسبات! وإن كان هذا الأمر ليس سيئا ويحبّب الناس في الشعر. ما أٌقصده أن تلك الأبيات الطائرة أو المختارات للمعرّي وغيره، كما هي جميلة وتدلّ على ذائقة لكن يجب أن ننتبه أنها مجرّد مختارات تقود إلى عالم الشاعر الذي تحتاج نصوصه لمزيد من التنقيب والاكتشاف. أبو العلاء المعري غُمط وغُبن حقه في التقدير والاعتراف الحقيقي بشاعريته، ولا أقصد هنا الدراسات حول تجربته، ولكن قصدت عدم استيعابنا لشاعريته، وحصرها بمحدّدات ومقولات وألقاب جامدة، جعلت بيننا وبين نصوصه حجب وسرادق!. والعجيب أننا نبحث عن مبرّرات من قبيل: أنه متشائم عزف عن مباهج الحياة، أو (سلبي) كما نردّدها بلغتنا المعاصرة؟ ولا نكلّف أنفسنا عناء العودة لتراثه الشعري الغني بالجمال ورهافة الحسّ وبدائع القول، والشعور بآلام الإنسانية، والأهمّ من ذلك أنه لم يذهب أكثر شعره يطارد طيف الحبيبة، أو يعيش (قلق البحث عن مكانة)!.