القناعات: تكوينها وتطورها عبر الزمن.

القناعات تبدأ في التكوّن عند أي إنسان منذ بداية نضوج وعيه، وتبدأ من عوامل كثيرة، منها التنشئة الأسرية، والمجتمعية، والدينية. تلك العوامل تتراكم في عقل الإنسان وتتحول إلى أفكار، وهذه الأفكار، مع مرور الزمن والتقدم في العمر وإضافة عوامل أخرى، تبدأ بالنضوج أكثر فأكثر. فتتكون قناعات خاصة قد تختلف عن الأقران الذين يعيشون من حوله، وتتباين بعضها مع الآخرين. طبعًا تلك القناعات قد تكون جامدة لدى بعض الأشخاص نتيجة الكسل أو الخوف من التغيير، بخلاف من له حراك دائم بالقراءة والانفتاح على بيئات مختلفة، فتكون له قناعات وأفكار خاصة به. تأثير العوامل المختلفة في تشكيل القناعات تستند هذه الفكرة إلى النظرية التجريبية التي طرحها الفيلسوف جون لوك، حيث يُعتبر العقل عند الولادة كـ “لوح فارغ”، تتشكل فيه الأفكار والقناعات من خلال التجارب والتنشئة. التنشئة الأسرية والمجتمعية والدينية تلعب دورًا جوهريًا في بناء القناعات الأولى عند الفرد، مما يعزز فهمنا لكيفية تأثير التجارب المبكرة في تكوين العقل. مثال حي على تطور القناعات: على سبيل المثال، هناك قصّة صديقين نشآ في نفس البيئة، وكانا يتشاركان نفس القناعات والآراء في مراحل شبابهم. لكن مع تقدمهم في العمر، حدث تحول كبير في تلك القناعات. أحد الصديقين بدأ في الانفتاح على شخصيات ذات تفكير متقدم ومتنور، حيث بدأ في قراءة كتب خارج نطاق تفكيره السابق، مما دفعه إلى إعادة تقييم العديد من أفكاره وتطوير قناعات جديدة. في المقابل، ظل الصديق الآخر متشبثًا بقناعاته القديمة، حيث شعر بالخوف من التغيير والاختلاف، وكان يفضل الجمود حفاظًا على هويته الاجتماعية. هذه القصة تعكس كيفية تأثير البيئة والتجارب الحياتية في تشكيل القناعات، وتُظهر أن البعض قد يظل ثابتًا في قناعاته بسبب الخوف من المجتمع أو الخوف من فقدان الهوية، بينما آخرون يفتحون عقولهم للتغيير والنمو الفكري، مما يؤدي إلى تطوير قناعات أكثر تنوعًا ونضجًا. ثبات وتغير القناعات تترسخ القناعات نتيجة تكرار بعض الأفكار وتراكمها في الأذهان، ثم تتحول إلى قناعة وعقيدة يصعب التخلص منها، إلا إذا كان صاحبها لديه استعداد تام للتبدل والتغيير. تدعم النظرية الاجتماعية للعقل هذا التفسير، حيث تعتبر أن القناعات ليست مجرد تجارب فردية بل هي نتاج التفاعل مع المحيط الاجتماعي. وقد أشار الفيلسوف إيمانويل كانت إلى أهمية القوالب الاجتماعية والثقافية في تكوين الإدراك، مما يعزز فكرة أن البيئة تؤثر بشكل كبير على طبيعة القناعات. هل تتبدل تلك القناعات مع مرور الزمن؟ نعم، قد تنضج بعض الأفكار نتيجة قراءات أخرى، تساعد في تبدلها إما إلى الأعلى وإما إلى الأسفل، أو تبقى على ما هي عليه. هنا تبرز نظرية الإدراك النقدي لكارل بوبر، التي تؤكد أن القناعات يجب أن تكون قابلة للتغيير والنقد، وأن النقد والمراجعة المستمرة يمكن أن يؤدي إلى تطور الأفكار. القناعات والضغوطات الاجتماعية قد يتم التنازل عن بعض القناعات نتيجة لضغوطات اجتماعية تسهم في التنازل عن تلك القناعات، أو نتيجة الخوف من الرهاب الفكري من المجتمع، فيتخلى عنها، لكنها تبقى في خلده، وقد تظهر في أوقات مستقبلية. تدعم النظرية البنائية التي طورها جان بياجيه هذه الفكرة، حيث يرى أن الأفكار والقناعات تتطور تدريجيًا بناءً على التفاعلات مع المحيط الاجتماعي والتقدم في العمر. القناعات هي جزء من الشخصية وتشكّل هوية أي إنسان، وتبني مستواه العقلي والفكري. تبقى تلك القناعات في ذاكرته، قد تبلى وقد تنشط بحسب التموجات الفكرية في الزمن الذي يعيش فيه. تنمو هذه القناعات وتتطور نتيجة استعداده النفسي لتقبّلها أو رفضها، لكنها تبقى شاهدة على عصره والزمن الذي عاش فيه. وفي هذا السياق، فإن التمسك بقناعات راسخة قد يمنح الفرد استقرارًا نفسيًا، لكن الانفتاح على الأفكار الجديدة والتغيير يعكس مرونة فكرية وقدرة على التكيف مع المستجدات. في النهاية، تظل القناعات عنصرًا حيويًا في تشكيل هوية الإنسان، شاهدة على مسيرته الفكرية وتجاربه، ومعبرة عن استجابته لتحديات البيئة والزمن الذي يعيش فيه.