ملوك الصحراء.

أرض المملكة العربية السعودية، مَرْبَعُ فجر البشرية، وموطن أقحاح العرب. لعبت الدور الأبرز في قصة الحضارة المبكرة، فكانت ـ وهي خاصرة قارات العالم القديم ـ ضابط إيقاع التجارة العالمية، وكانت ـ وهي تُبشّر بمبعث النبي محمد ـ قائدة القيم الأخلاقية، وكانت ـ وهي تنفض غبار الأرض عن مكنوناتها ـ رائدة الاقتصاد العالمي المبني على الوقود الهيدروكربوني. وحتى اليوم، بقي الخليجيون ـ على امتداد الجزيرة العربية ـ أصرح الناس نسباً، وأبلجهم أرومة. بل وخالصة صميم العرب. فلم تطلق نصوص الروايات الآشورية والبابلية والإسرائيلية على غيرهم وصف “العرب” منذ القرنين التاسع والخامس قبل الميلاد، حتى الكتاب العبري المقدس أشار إلى العرب بأنهم ملوك الصحراء، كانوا يقدمون الجزية للملك سليمان (حوالي 970-931 قبل الميلاد). وفيما بعد، سجَّل نقش يرجع تاريخه إلى (853 قبل الميلاد) انتصارًا للملك الآشوري “شلمنصر الثالث” على تحالف يضم “جنديبو العربي” وقوته المكونة من (1000 جمل). أما في مجال الريادة التجارية، فقد وفّرت الجزيرة العربية قديماً بوابات لدخول البضائع من جميع أنحاء المعمورة نحو المناطق الداخلية المعزولة. وقد ذكر المؤرخون أن بضائع “عمان” و”سبأ” كانت تنقل عبر الصحراء في قوافل ضخمة، تتبع مسارات طبيعية على طول المناطق الداخلية من شبه الجزيرة العربية، وأحد أكثر المسارات ازدحامًا يمر بالجانب الغربي عبر عسير والحجاز، على بعد حوالي (100 ميل) من البحر الأحمر إلى غزة، ويربط حضارات البحر الأبيض المتوسط ببلاد العرب. أما الإسلام، فبعد عشرين عامًا من إعلان النبي محمد رسالته لأول مرة، توحدت شبه الجزيرة بأكملها في تفانيها لإله واحد. وفي غضون جيل، كان الإسلام قادراً على جلب النظام الاجتماعي الجيد للسكان المشاكسين المعزولين (Wynbrandt, 2010). سياسياً، حالف القدر جزيرة العرب لتنضوي تحت حكم أبنائها أخيراً. ففي منتصف القرن الخامس عشر الميلادي (عام 1744م)، زار “مانع بن ربيعة المريدي الحنفي”، الجد الأعلى لآل سعود، ابن عمه “ابن درع” في منفوحة” قرب الرياض، فأقطعه الأخير بلدتي “غصيبة” و”المليبد”، على بعد اثني عشر ميلاً من مشيخته (حملت فيما بعد اسم الدرعية). وفي أواسط القرن الثامن عشر، نشر أمير الدرعية “محمد بن سعود” ومن أعقبه سلطانه على نجد، فنشأت الدولة السعودية الأولى، واستمرت (75 عاماً)، في عام (1825م) أعاد تركي بن عبد الله آل سعود السلطة السعودية إلى نجد، وبقيت حتى عام (1891م)، ورحل عبدالرحمن بن فيصل آل سعود، آخر حكام الدولة السعودية الثانية، خارج نجد. بعد مرور عقد على زوال الدولة السعودية الثانية، ترسخت جذور المملكة الحديثة عندما استعاد الملك المؤسس عبد العزيز، الابن الرابع للإمام عبد الرحمن بن فيصل، الرياض. وبعد ثلاثة عقود من هذا الانتصار، أسس عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، الدولة السعودية الثالثة بدخول نجد عام (1919م)، والإعلان عام (1932م) عن مولد المملكة العربية السعودية، في خضم أزمة مالية عالمية طالت المجتمع الدولي بين عامي (1929-1933م)، ووضعت الدولة السعودية الوليدة على محك الأزمة. كان الملك عبد العزيز ينظر بإلهام إلى ما تحت رمال الصحراء من ثروات ممكنة. لذلك، وبنصيحة من مستشاره “سانت جون فيلبي”، قام باستدعاء الأمريكي “تشارلز كرين” عام (1930م) للبحث في مكنون الأرض السعودية، وبدوره قام “كرين” بالترتيب مع الجيولوجي ومهندس التعدين “كارل تويتشل” لإجراء مسح عام (1932م)، فاكتشف أن هناك بنية جيولوجية تشير إلى وجود النفط بكثافة. وعليه، قامت شركة “سوكال” الأمريكية بضخ خمسين ألف دولار من الذهب سنوياً لخزينة الدولة السعودية مقابل حقوق النفط، ولمدة (60 عاماً)، مع قرض عاجل للدولة بعشرين ألف جنية استرليني. هكذا نشأت دولةٌ تحمل ثروة هائلة، ونفوذاً، وتحديات. الأولى: تستند إلى مصدر جبَّار للأمن المالي. والثانية: تضمن الزعامة الأخلاقية والسياسية. والثالثة: تصون تنافس القوة، باعتبار المملكة بوصلة الدبلوماسية الشرق أوسطية.