قراءة في نماذج من قصائد يوم التأسيس..
رؤية وطنية ومذخور وجداني وجماليات تعتمد حقول الدلالة وأساليبَ البلاغة وتجليات اللغة.

في شعر المناسبات ما يبدو حَريّا بالقراءة و الدراسة لأن المناسبة متجذّرة في الوجدان الذاتي و الجمعي على حد سواء ، وليست حدثاً عابراً يمر كغيره من الوقائع العامّة ، ومن هذه المناسبات ما يستثير ذكريات حميميّة فاصلة تلامس تاريخ الأمة وماضيها وحاضرها و تستشرف مستقبلها ، ويوم التأسيس في المملكة العربية السعودية من هذه المناسبات التي تمسُّ شغاف القلوب وتستعيد ذكريات لا يبليها كرُّ الأيام و لا مرور السنين ؛ فمن المعلوم أن مصائر الشعوب و مستقبلها منوط بمثل هذه المناسبة التي تتطلب العودة إلى أبجدياتها واستقراء أسرارها ، ويوم التأسيس في المملكة العربية السعودية هو يوم 22 فبراير من كل عام، وهو يوم مهم للاحتفاء بتاريخ المملكة وتراثها. تم تحديد هذا اليوم للاحتفال بذكرى تأسيس الدولة السعودية الأولى، التي أسسها الإمام محمد بن سعود في عام 1727م (1139 هـ) في مدينة الدرعية. في هذا اليوم تتداعى إلى الأذهان وتستثير الوجدان مراحل تطور المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد الإمام محمد بن سعود، وصولًا إلى المملكة الحديثة التي أسسها الملك عبد العزيز آل سعود في 1932 ووحدها تحت راية التوحيد. وتسنح الفرصة في هذه الذكرى للتعرف على التراث الثقافي والحضاري للمملكة، وتقدير الجهود التي بذلها الآباء المؤسسون من أجل بناء المملكة وتوحيد أراضيها ، وقد تبارى الشعراء في الاحتفاء في قصائدهم بهذه الذكرى ، وفي هذه المناسبة أقف على بعض ما جاء في نماذج من هذه القصائد : ففي قصيدة الشاعر إبراهيم مفتاح (هذي المفاتن) خطاب للوطن من شاعر يخفق قلبه بحبّه فيترجم مشاعره في قصيدته عبر مسارات ثلاثة يتأمّل فيها ملامح الجمال و الجلال: التاريخ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً تؤطّره أحاسيسه الذاتية وتستجلى ملامحه عيون عاشقة و قلب خافق ؛ فنحن أمام خطاب شعريٍّ تتلامح في مفرداته نبضات العشق وخفقات المحبة ومناجاة المعشوق، فتتبدّى المفاتن و الألق و السحر ثلاثية وجدانية تنبيء بها العيون ، حقل دلاليٌّ مترابط توميء إليه أداة الإشارة إلى القريب (هذي) ليس قربياً حسّيّاً فحسب؛ ولكنه يعبر عن لهفة المُحبِّ وشوقه ،يحتض المكان هذه الجماليات التي تنطق بما يعتمل في داخلها من مذخور تكتنزه في باطنها الأرض التي اختار لها الشاعر كلمة الثرى بما تستجلبه من معاني الثراء ومايتداعى على اللسان من استجلاب للثُّريّا ، هاتان المفردتان اللتان تمثّلان معنى النفائس من مكنونات الأرض و المنارات من قناديل السماء؛ أما الزمان فهو قرين المكان ؛ فنحن أمام التاريخ ؛ ومن هذه الزمكانيّة الحاضرة نستجلب إلى ساحتها ملامح الكون شمساً منيرة ، فتنقاد عبرالمُطلَقات التي تحمل معاني الخلود ومنظومة القيم الكبرى ،تجمّعت لتشي بسموِّ المكانة (البطولات والإشراق والعبق) تتكرّر في القصيدة الإشارة إلى الماضي و المستقببل مرتبطةً بحسّ الذات الشاعرة و رؤيتها التي تخترق السُّجف وترنو إلى الأمداء الواسعة والأمنيات السافرة ، يتعانق النيض والحرف و الزهر والقرطاس و القلم، عُدة الشاعر و ذخيرته ؛ تحتشد جميعها لتحيط بما يخفق به فؤاده الذي يتجاوز مفهوم المناسبة العابرة ويغالب اللحظة في انسياقها عبر تيار الزمن لتظل ساكنة في الأعماق حيّة في الأحداق : أنت ياموطني ماضٍ يعانقه زهو البطولات والاشراف والعبق وأنت في حاضر تكسوه أجنحة علوها من بياض الصبح ينبثق فأنت في مهجتي نبض وفي قلبي حرف وفي كل عام يزهر الورق” وفي قصيدة ( يا سائلاً عن موطني وبلادي) للشاعر حمود بن عبدالله بن محمد الغانم تلقائية تنساب معها الالفاظ سلسبيلاً بلا تعمّل و لا تكلّف ، الخطاب فيها مُوَجَّهٌ إلى نكرة غير مقصودة تفيد العموم ، تجيب على سؤالٍ افتراضيٍّ مُتخيّل يجترحه عبر اشتعالات الوجد وخطرات العقل و القلب : فيذكر في نهج حجاجي مُسلّحٍ بالأدلة الظاهرة والمعالم البارزة ، ما بين مُدركات الحس وخطرات الوجد وزناد الفكر : أما الأدلة فهي ماثلة للعيان غنيّة عن البيان : البيت الحرام وطيبة وضريح المصطفى شعلة الحق ونور الهدى ، أما المعاني السامية و القيم الرفيعة التي تدرك بالعقل بل يستشعرها الفؤاد فهي الشرع و الحق و المحبة و نبذ الأحقاد ، وأما مظاهر الثراء الروحي الذي به تكتمل أضلاع المثلث فهو يتبدّى حيث المحبة والعزّة ومحاربة الحقد والحسد ، سلسلة من أسماء المعاني (المصادر) التي يظل فيها الفعل مطلقاً في دلالة حرّة غير مقبدة بالزمان أو المكان. وإذ ينتقل من تعداد المناقب و المعالم التي انتظمت في الملموس و المحسوس و المدرك في العقول و القلوب، يقف في وجه طغمة الحسّاد و يرمي بسهم الموت دفاعاً عن الوطن وأرضه متسلّحين بالدعاء مستمسكين بالدين متربّصين بالأعداء في تقريرٍ مباشرٍ ونبرةٍ عالية و صلابة لا تلين ، ويأتي التكرار لكلمة (وطني) في أول كل بيت من الأبيات الستة الأولى تأكيداً وارتباطاً وجدانيّاً لا تنفصل عراه ، ومثل هذه المباشرة و الوضوح أمران ملازمان لمثل هذه المناسبة التاريخيّة حيث يتقاطع النهجان التقريريُّ و التعبيريُّ ليعبّرا عن الوعي بما يمليه الحدث التاريخي من المعاني والأفكار : “يا سائلًا عن موطني وبلادي ومفتـشاً عن موطن الأجداد وطني به البيت الحرام وطيبة وبه رسول الحق خير منادي وطني به الشـرع المطهر حاكم بالحق ينهي ثورة الأحقاد وفي: قصيدة (سلمت يا موطن الاجداد) للشاعر رافع علي الشهري خطاب ومناجاة للوطن في لهجة حميميّة وهمسٍ عاشقٍ ودعاءٍ خاشعٍ حيث يتكرّر النداء بأداة النداء التي تُستعمل للبعيد ؛ ولكنها هنا تخرج عن دلالتها الأصليّة في مفارقة بلاغية لتصبح للقريب . ويأتي أسلوب النداء الأول بصفة الإطلاق و العموم (وطن الأمجاد) وفي الثانية بصفة التخصيص (يا موطني) فيتجلّى فيه المنادى بمختلف أشكاله النحوية بأجمل الأوصاف ويُكنّي عنه بأشكال عدة من الكنايات متداعيةً كالنهر في مجراه عذباً سلسبيلاً ، والنداء من أكثر الأساليب الطلبيّة تعبيراً عن التواصل مع القرين و التعلق الحميم ، وقد استقصى الشاعر مختلف المزايا ما كان متعلّقاً بالبعد الروحي و الحضاري و الإنساني و العاطفي، وما هو عامٌّ شاملٌ وخاصٌ وثيق الصلة بأدقِّ المشاعر و أجملِ العواطف ، وقد جمع بين النعوت في مختلف صيغ المشتقات من اسم الفاعل إلى اسم المكان و الزمان إلى الصفة المشبهة ما كان منها مفرداً أو مركّبا وتكون القاموس الشعري بالإضافة إلى ذلك من جملة من أسماء المعاني (المصدر) التي تدلّ على مطلق الصفة : الخير و الكفر و الإلحاد والحب و الشوق : ومنك يا موطني المعطاء انطلقت جحافل تنشر الإسلام للأممِ وتحمل الخير للدنيا فتنقذها من فتنة الكــفر والإلحادوالصنم علوت يا موطني وازددت مفخرة كل يرى المجد قد حلاك بالعظمِ وفي قصيدة مطلعها: حُبِّيْ لَهَا، وَجَمِيعُ الْحُبِّ أُهْدِيْهَا وَمِنْ مَحَبَّتِهَا قَلْبِي انْتَشَى تِيْهَا يلفتنا فيها ظواهر ثلاث : الأولى تكرار كلمة الحب مضافة إلى الضمير العائد إليها ، فضلاً عن رويّها وقافيتها المطلقة ، وحرف الهاء مهموس رخوٌ مَخرجه من أقصى الحلق ، وهذا له دلالة على عمق الإحساس و صدق الشعور ، وهو مشترك بين العديد من الأبجديات العربية و الفارسية والأردية و البشتونية ، وإيقاعه يوحي بالبهجة و التوهّج في مختلف الأحوال النفسية، و القافية المطلقة وهي ما كان رويُّها متحركاً، وهو ما يوحي بالحرية والزخم العاطفي ، وكذلك فقد اختار الشاعر (بحر البسيط) من البحور السلسة المنتظمة الإيقاع بتلقائية لا تعقيد فيها ولا تكلف. أما الظاهرة الثانية فهي الغنائيّة التي تنطلق من الذات وتعبر عنها فهي ذات خصوصية نفسية و وجدانية ، والضمائر الصرفيّة لا تنفكُّ عن الضمائر النفسيّة ، فالظواهر مترابطة ؛ من هنا كان الحضور الأوفى للضميرين حضوراً وغياباً ، حضورٌ ضمنيٌّ عبّر عنه ضمير الغائب العائد للبلاد ممثلةً للوطن و الحضور المصرّح به يميط اللثام عن حضور الذات الشاعرة ، وكلاهما في بوتقة الحب ينصهران ، وهو أقصى مايشير إليه التواصل و التعلق والفناء في الآخر ، وقد استثمر الشاعر الحقل الدلالي الشامل بمعنى الحب في مختلف درجاته و مستوياته ، ففي بيت واحد جمع بين الهوى و الحب و العشق: أحِبُّ صَحْرَاءَهَا أَهَوَى شَوَاطِئَهَا وَأَعْشَقُ الْجَبَلَ الْعَالِي وَوَادِيَهَا وكذلك جمع تضاريسها كافة الصحراء و البحار و الجبال و الوديان ؛ وهذا استقصاء دليل أقصى درجات التشبث بالوطن ومحبته . وهذا النهج يشمل التتبع لمعالمها الروحية و أماكنها المقدسة في توازٍ مشهود لمختلف الأبعاد الروحية و النفسية و الطبيعية و الإنسانية و التاريخية و الاجتماعية مما يدل على تلقائية المشاعر وسلامة الطبع . أما مايتعلق بالقيم الحضارية و الإنسانية فإنه يتمثّل فيما يوليه العرب و المسلمون لهذه البلاد من اهتمام فائق فهي قبلتهم و مناط عزتهم وموئل تاريخهم ،وتدرج الشاعر في قصيدته بادئاً بدور الملك الموحد للبلاد تحت راية التوحيد عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وأبنائه من الملوك الميامين الذين ساروا على نهجه وحذوا حذوه وصولاً إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ملك الحزم و العزم ؛ وهكذا مضى الشعر منتَظِما في أفكاره و مشاعره متنقّلاً بين الزمان و المكان و الحاضر و الماضي: عَبْدُ العَزِيْزِ لِتَوْحِيْدِ الْبِلَادِ سَعَى وَبَعْدَ تَوْحِيدِهَا مَا كَلَّ يَبْنِيْهَا أَبِنَاؤُهُ بَعْدَهُ سَارُوا بِمَنْهَجِهِ فَشَيَّدُوهَا عَلَى أَرْكَانِ بَانِيْهَا سَلْمَانُ قَائِدُنَا أَنْعِمْ بِهِ مَلِكًا بِفَضْلِ حِكْمَتِهِ حُزْنَا أَعَالَيْهَا هَذِي سِيَاسَتُهُ بِالْحَزْمِ صِبْغَتُهَا وَالْعَزْمُ لِلظَّفَرِ الْمَنْشُودِ حَادِيْهَا وهكذا تبدو هذه القصائد معبرة عن رؤية وطنية تستلهم يوم التأسيس الذي يعد القاعدة التاريخية الصلبة لبناء الدولة حاضراً ومستقبلاً.