ذكرى يوم التأسيس

اليوم الثلاثون من جمادى الآخرة للعام 1139هـ الموافق الثاني والعشرون من شهر فبراير 1727م مولد دولة العز والسؤدد( السعودية العظمى) يوما أغر من الزمان مشهرا، إذ يعد ذلك اليوم فصلاً بين ليلٍ مدلهم مثقلاً بالخوف والجوع ونقص الثمرات ناهيك عن الجهل والحروب والتشتت وأنواع الهموم، وبين فجر أنبلج نوره وبزغ صبحه وأشرق ضياءه؛ ليعم الرخاء وينتشر الأمن وتطيب به الحياة!! إنه حدث تاريخي خالد في ذاكرة الأجيال السعودية طبع ببطولات وطنية أنطلقت من ربوع الدرعية التي تعد نواة الدولة السعودية الأولى ومركزها الأساس قاد مسيرتها الإمام محمد بن سعود الذي صنع تاريخاً زاخراً بالبطولات والأمجاد!!  إنها درعية العراقة والفخر؛ المقر الأساس ( لعائلة آل سعود) ذات الموقع المميز والمكانة المرموقة إذ تتأخم على وادي حنيفة مما أكسبها خصوبة وثراء ورواجاً تجاريا وثقافياً، الدرعية التاريخ؛ حاضرة نجد آنذاك وموطن العلم ومقصد العلماء، وهذا ما مهد للقاء الإمام محمد بن سعود بالشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي تمخض عن تحالف ديني سياسي يرمي لتوحيد البلاد وضم الأقاليم وتوسيع رقعة الحكم السعودي في إطار بسط النفوذ والقضاء على الفتن وإخماد الحروب والمنازعات وبث الألفة والأخوة في ظل حكومة تحكم شرع الله وتقيم العدل وتنشر العلم الذي يتبدد معه ظلام الجهل والبدع التي أوجدتها حياة الترحال والفقر وانعدام المرجعية التي يُحتكم إليها، مما جعل الإمام محمد بن سعود - طيب الله ثراه- ينبري لهذه المهمة لا لمجرد ملء فراغ السلطة بل لينشيء دولة ذات سيادة وكفاءة وموثوقية تجعل من القرآن الكريم والسنة النبوية دستورا لها ومنهجا يبنى عليه الحكم والتحاكم، ليعم بذلك التوحيد الخالص الذي هو أساس الوعي الصحيح ليقظة العقل واستنارة الفكر وتعزيز قيم الدين والانتماء والوطنية ليتحرر الإنسان من وطأة التخلف والتمحور حول ذاتوية طاغية؛ تطاولاً أو دفاعاً في ضوء موجات السطوة القبلية أو التوسعية الإقطاعية أو المطامع الخارجية، ليتحول من حالة الارتباك والفوضى إلى نظام دولة مؤسسية ترعى مصالحة وتكفل له الحماية والأمان، لينضوي تحت لوائها في إطار مجتمعي يحترم القانون ويغلب المصالح العامة على النزوات الطائشة أو المتهورة، لتكون المحصلة بناء ونماء وفقا لأهداف واضحة وخطط مرسومة تستهدف بناء الإنسان وإعداده ليكون نافعا صالحا منتجاً معطاء بممكنات راسخة ومقومات معرفية ومهنية ليتبوأ الصدارة في بناء الوطن وتقلد مسؤولياته بكفاءة واقتدار!! لقد بذل المؤسس الأول كل ما يملك  من عدة وعتاد في سبيل توحيد البلاد واستتباب الأمن، مما جعله هدفاً للحملات العثمانية الغاشمة التي جرّته لحروب طاحنة بعد أن رأت في دولة الفتية تهديدا لنفوذها، الأمر الذي دفعه لمواجهات دامية مع تلك الفلول التي جثمت ردحاً من الزمن على بعض أجزاء الجزيرة العربية والتي كرست عمداً الجهل والفقر ونشر الخرافات والبدع والتجهيل، كما  أشعلت نار الفتن والتناحر والفرقة لينقسم الناس آنذاك لفسطاطين بين مناويء لحكمهم الظالم أو منخدع بوعود زائفة؛ ليتأجج تبعا لذلك  الأقتتال وإثارة النعرات!!  لقد أثار ذلك الاحتقان حفيزة قبائل الجزيرة ضد العثمانيين دفعا للظلم والاستبداد، لينضموا - دونما تردد- للدولة السعودية التي يرون فيها الخير والصلاح للبلاد والعباد، لذا حظي الإمام محمد بن سعود بتأييد واسع؛ ترحابا واستبشاراً بنشوء دولته بين ظهرانيهم؛ لتجد منهم الدعم والمؤازرة والمناصرة، بطول البلاد وعرضها، الأمر الذي زعزع كيان العثمانيين وقوض نفوذهم؛ ليجدوا الخطر يحيط بها من كل جانب، مما دفع حكومة( اسطنبول) لإرسال الجيوش تلو الجيوش في محاولة للقضاء على الدولة الوليدة ظناً منهم أن ذلك سيوأد هذا المشروع الوطني؛ فلا لا تقوم له قائمة، إلا أن عزائم الأبطال تظل متقدة لا تطفيئها نيران الآلة العسكرية .. لقد أخطأ ظنهم  .. وهيهات لما يوعدون!!    أوما علموا أن الأسد تولد أسداً، وأن آل سعود - أهل العوجاء- لا تكبوا لهم نارٌ ولا تخمد لهم عزيمة، فإذا مات سيد قام سيد مكانه؟!! فما إن هدأ وهج الدولة السعودية الأولى حتى أنبرى لذلك البطل المغوار الَإمَامُ تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود اَل سعود لإعادة ملك جده، وذلك بتأسيس الدولة السعودية الثانية (1234-1309هـ / 1818 - 1891) إذ أتخذ الرياض عاصمة لدولته  ليكمل المسيرة كأمتداد طبيعي لسابقتها؛ إحياء لأمجادها، ورد اعتبار لبطولات الإمام المؤسس وإثبات أن الدولة قائمة رغماً عن أعدائها في تحدٍ صارخ وشجاع لمناوئيها، ليشق طريق التوحيد والبناء ونشر العدل وإرساء قواعد الدولة على نهج سليم، لتنتقل السلطة من بعده لابنه (فيصل بن تركي )ثم لأحفادة عبدالله بن فيصل ثم عبدالرحمن بن فيصل( والد الملك عبدالعزيز) - طيب الله ثراهم جميعاً- إلى أن سقطت الدولة السعودية الثانية في العام 1309هـ لتعيش البلاد مرحلة فراغ وانتظار عصيبة لإحياء الدولة من جديد بأركان صلبة ومتينة وأسس عميقة وراسخة في مرحلتها الثالثة لتكون أقوى وأقوى، ليترجل لها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود آل سعود البطل التاريخي الهمام القوي الأمين،  العبقري العظيم، الذي تمكن من استعادة ملك أبائه وأجداده، بعزم أكيد وحزم مكين ليقود مسيرة النصر المؤزر ليظفر بتأسيس ( الدولة السعودية الثالثة) بدءا من دخوله الرياض فاتحاً منتصرا في ( 5 شوال 1319 هـ / 15 يناير 1902م) معلنا من على شرفة (قصر المصمك) الملك لله ثم لعبدالعزيز، ليكمل بذلك مسيرة التوحيد والبناء في رحلة كفاح استمرت أكثر من ثلاثة عقود، ليتحقق له  بسط نفوذه واكتمال ماكه واستحقاق جهوده، ليصدر آنذاك مرسوم ملكي يعلن فيه توحيد كامل أجزاء الوطن تحت أسم( المملكة العربية السعودية) في 17 جمادى الأولى 1351هـ تحت راية ( لا إله إلا الله محمد رسول الله)  كأمتداد  للعصرين السابقين ووريثة لها، تبعاً لشجرة الحكم الملكي  السعودي المتصلة ابنٍ بأبٍ، وهذا ما يجعل  هذه الدولة  عميقة الجذور  لأكثر من ثلاثة قرون أو يزيد، كمراحل رتبية بنائية لا يمكن فصلها؛ تقوي بعضها بعضا، لتأتي الدولة السعودية الثالثة كمحصلة لتلك التضحيات متكاملة ناضجة محتفية بثقافة أصيلة ونهضة تنموية معاصرة أثبتت جدارتها ارتقاءً وإتقاناً، في تفوق منقطع النظير بخطوات متسارعة وقفزات وثابة وتطور مضطرد متسارع لا يعرف الكلل، وصولا للرقمنة التقانية والحكومة الإلكترونية في أتمتة متفوقة بأيدٍ سعودية صنعت إعجازاً يتحدى الصعاب ويعلو فوق هام السحاب!! ولأن يوم التأسيس هو البداية  الفعلية لتاريخنا المعاصر والحافل بالتضحيات والبطولات الذي مكن لنا بلدا آمناً نجني ثمرته رفاء ورخاء، وطنا شامخا سيادة وريادة،عدلاً وعطاءً، حكامنا منا وفينا نبادلهم حبا بحبٍ، وفاء بوفاء، انتماءً وولاء كروح وجسد؛  نسيج واحد لا ينفصم!! فحق لنا أن نفخر بقيادتنا، بوطننا، بأهلينا .. بإنجازاتنا .. بمقدساتنا .. بكل جميل في وطننا!! { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [ابراهيم : 35] ودام عزك ياوطن!