الصراع العربي ـ الإسرائيلي أخذ أشكالًا عدة للتعبير عن نفسه، ومن أبرز أدواته كان مضمار الثقافة لكونه الصراع من أجل الدفاع عن الهوية العربية. السينما من الأدوات المهمة في نقل صورة الصراع والحياة اليومية للشعب الفلسطيني تحت سياط المحتل. حاولت في الحركة الصهيونية منذ بدايتها استغلال السينما في تزييف الواقع وخلق واقع جديد من خلال الاصرار على إضفاء شرعية وجودها على أرض فلسطين المحتلة، اعتمدت على هوليوود في إنتاج أفلام سينمائية تخدم الحركة الصهيونية وأهدافها في تشويه حقيقة الصراع القائم في أرض فلسطين. لكن في السنوات الأخيرة شهدت ظهور العديد من الأفلام الروائية والوثائقية التي تطرح القضية الفلسطينية بشكل متوازن، ومن هذه الأفلام: فيلم” إن شاء الله” الفيلم الروائي الثاني للكاتبة والمخرجة الكندية أنييس باربو لافاليت. يروي الفيلم قصة” كلوي” الطبيبة الكندية الشابة القادمة من كيبيك الكندية وتعمل في عيادة صحة المرأة تديرها جمعية الهلال الأحمر في رام الله وتعيش في حيفا، تعالج القصة وضع نقاط التفتيش حيث تمر الطبيبة “كلويه” كل يوم بنقطة التفتيش للوصول إلى مخيم اللاجئين مقر عملها. تعرفت كلويه على الفلسطينية رندة وهي واحدة من مرضاها التي يقبع زوجها في السجون الإسرائيلية، ومن خلال تردد الطبيبة كلويه على عائلة صديقتها الفلسطينية رندة (صابرينا وازاني) أصبحت قريبة من معاناة الشعب الفلسطيني. تنطلق الطبيبة كلويه (إيفلين بروشو) بحكم نظرتها الإنسانية وطبيعة مهنتها في محاولة القيام بعملها الإنساني ومساعدة النساء ومشاركتها لهمومهم ومعاناتهم، وتتحمل زحمة وإذلال نقاط التفتيش والتفجيرات والرصاصات الطائشة، وهي سمة غالبة على حياة الشعب الفلسطيني. اقتربت كلوي من مريضتها الحامل رندة والتي تعيش في مخيم قلنديا للاجئين مع شقيقها فيصل (يوسف سويد). ويشير الفيلم اليه بكونه مقاوم للاحتلال الإسرائيلي. زوج المرأة الفلسطينية رنده سجين في السجون بانتظار صدور الحكم (سيصدر الحكم عليه لاحقاً بخمس وعشرون عاما). أخيها الصغير الذي يعاني من التوحد ويرتدي ملابس (سوبرمان) على الدوام كي يتمكن من القفز على الجدار العازل. الافتتاحية في الفيلم مع طفل يهودي يرتدي قلنسوة يمشي في شارع، ويقف أمام قفص للحمائم وفجأة نسمع دوي لصوت انفجار كبير، وتنتقل الكاميرا لمشهد سهرة، موسيقى صاخبة ورقص في ملهى ليلي، تخرج منه فتاتان مترنحتان من أثر الشرب، تمسك إحداهما كاميرا تصور الفتاة الثانية وتقول لها: (قولي مرحباً فلسطين إلى الكاميرا)، تتردد المجندة (آفا) لكن الطبيبة (كلوي) تلح عليها، وأخيراّ تستجيب لطلبها. في الصباح يبدأ معرفة هوية الشخصيات الأساسية في الفيلم، فكلوي طبيبة مبعوثة من الأمم المتحدة تعمل على علاج اللاجئين الفلسطينيين، تعيش في عمارة سكنية وجارتها التي كانت معها في الحفل ما هي إلا مجندة (إسرائيلية) تعمل على الحاجز الفاصل بين الخط الأخضر والضفة الغربية. الافتتاحية المدمرة لصوت انفجار بداية لسرد حكاية الفيلم التي سنتابع عناصرها بدقة سردية حقيقية مع التركيز على هذه الطبيبة، التي تهتز فيها ثقتها ويزداد قلقها مما تراه وتدركه من الكراهية على الجانبين. تصبح شخصية الطبيبة كلوي ساحة معركة (لقد ابتلعتها الحرب). لا يمكنها أن تبقى على الحياد أو تظل شاهدة فقط. تواجه كلوي الحرب وتكتشف معاناة الفلسطينيين من النساء والرجال والأطفال والشيوخ خلال الحواجز ونقاط التفتيش وتحاول إقامة صداقات مع السكان والنساء والأطفال والرجال وتقديم المساعدات الطبية والإنسانية. تلتقي كلوي بالوجوه المختلفة للحرب المجهولة، بين هذين الطرفين النقيضين تواجه التعنت الإسرائيلي. في العيادة المؤقتة لمخيم اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية، ترافق كلوي (إيفلين بروتشو) طبيبة توليد القادمة من كيبيك الكندية، النساء الحوامل تحت إشراف ميخائيل (كارلو براندت)، وهو طبيب من أصل فرنسي، وتتنقل بين نقاط التفتيش والجدار الفاصل. تواجه كلوي الحرب وتكتشف معاناة الفلسطينيين من النساء والرجال والأطفال والشيوخ خلال الحواجز ونقاط التفتيش وتحاول إقامة صداقات مع السكان والنساء والأطفال والرجال وتقديم المساعدات الطبية والإنسانية. تلتقي كلوي بالوجوه المختلفة للحرب المجهولة، بين هذين الطرفين النقيضين تواجه التعنت الإسرائيلي. صادق جارتها المقصودة (آفا) وهي جندية إسرائيلية شابة، ورنده (صابرينا وزاني هي ممثلة فرنسية من أصل جزائري) إمراه فلسطينية شابة حامل، تعاني من ظروف صعبة وفقر شديد، لدرجة أن طريقتها الوحيدة لكسب لقمة العيش هي التقاط القمامة التي خلفها المستوطنون الإسرائيليون خلف جدار الفصل العالي. تتذكرنا الكاتبة والمخرجة (أنييس باربو لافاليت) في سردها حكاية الطبيبة “كلوي” بكل صعوبات الحياة وانعكاسات حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي لا يتوقف أبدا حتى نيل الشعب الفلسطيني حقوقه في كامل ارضه المغتصبة وسرعان ما تتعود الطبيبة كلوي التي غرقت في هذه الفوضى التي لا تضاهى على تلك الممارسات اللاإنسانية التي يتصرف بها جنود الاحتلال الصهيوني، وفي نفس الوقت، تجد سعادة كبيرة في صداقتها للعائلة الفلسطينية ومشاعرهم الدافئة وطيبة قلوبهم. وفي نفس الوقت، تجد الطبيبة الكندية التي تتحدث الفرنسية مع العربية بعد اقترابها من رنده وفيصل، تصبح أكثر غضبا من الإجراءات الإسرائيلية (هذا على الرغم من رفض الفيلم التعبير عن الكثير في طريق النقد السياسي المحدد) وينعكس ذالك في توتر علاقتها مع المجندة الإسرائيلية (آفا)، تستغل صداقتها مع المجندة (آفا) لتسهيل التصاريح اليومية لأصدقائها من الفلسطينيين لرندة وفيصل وأمهم لزيارة القرية التي نشأت منها عائلتهم ومسقط رأسهم. ومن المشاهد المؤلمة في الفيلم، مشهد موت مراهق تحت عجلات دبابة إسرائيلية بعد رجمه دبابات جنود الاحتلال مع رفاقه الصغار بالحجارة. ينكسر قلب الطبيبة كلوي رؤية مثل هذه الحالة أو المواقف الحزينة. يتضاعف حزنها عندما تشهد وفاة صبي فلسطيني دهسته سيارة مدرعة إسرائيلية. واستشهد الطفل أمام ناظريها، ودماؤه غطت ملابسها، هي الطبيبة المعتادة على لون الدم، لكن لون دم هذا الطفل لم يكن يشبهه لون، هو لون الظلم والذل والاستهانة بحقه في الحياة، ومن هنا تتغير كلوي نهائياً، وتقرر أن هذه الحرب حربها، تمشي في جنازته وهي هائمة على وجهها، تعابير صلبة وقوية من هول الصدمة التي عايشت تفاصيلها. تتعاطف الطبية كلوي مع رندة (صابرينا أوزاني)، وهي أم حامل محاصرة في حياة العوز. الفيلم الذي تم تصويره إلى حد كبير بكاميرا على كتفه من قبل والد المخرجة لمصور السينمائي فيليب لافاليت، ويظهر حربا يومية، من جريمة الطفل الذي سحقته مركبة عسكرية عند سفح جدار الفصل، إلى توقعات لا نهاية لها من إهانات يومية عند كل نقطة تفتيش. ويصور أعمال البؤس المنظم والظلم الذي لحق بالعائلة الفلسطينية بعد الحكم على زوج رنده بالسجن لمدة 25 عاما الذي ينعكس غضب على وجه الطبيبة كلوي، وفقا لتوترات وأفعال “السلطات” العمياء، يتم الحرمان من الخدمات الأساسية أو يتعذر الوصول إليها. وفي مشهد مضحك لطفل فلسطيني لم يتجاوز الثامنة من عمره، يقف فوق سلم محاذٍ لمنطقة الخط الأخضر ويمثل أنه يتحدث مع الرئيس (الإسرائيلي) من خلال حذاء يستخدمه هاتف يقول له” آلو مرحبا رئيس دولة (إسرائيل) المحترم، ويبدأ بالاستهزاء به وشتمه). تبتسم الطبيبة” كلوي” على هذه السخرية وبعد أن يسمع الطفل ضحكات كلوي يقوم بتمرير الحذاء اليها، فتقوم بدورها بإكمال المحادثة مع رئيس الإسرائيلي وباستخدام الحذاء وسيلة الاتصال. المخرجة الكندية في تصريحات صحفية وعلى هامش عرض فيلمها، قالت” إنها لا تستهدف بقصتها هذه طرفا بعينه وإنما احتكاكها وارتباطها بالمنطقة جعلها تقوم بمحاولة نقل صورة عما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة، موضحة أن عددا كبيرا من دول العالم غير ملم بما يحدث بدقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين”. وأضافت "لذلك قال الكثير من الناس أن الفيلم أنحياز لجانب على حساب الآخر، في الواقع إنها مأساة وكارثة أنسانية، لا يمكن لأحد أن يقترح طريقة حقيقية للخروج منها بسلام “. الفيلم في رأيي محاولة في نقل جانب من الحقيقة. حيث أصبحت المعاناة اليومية لأنسان الفلسطيني طبيعية في هذا المجال ولا أحد يريد أن يسمع عنها. ترى كلوي الفقر الشديد والقمع الذي تواجهه رنده وشعبها يوميا، تعتزم الطبيبة كلوي في البداية أن تكون على الحياد وأن تتجنب الوقوع في الصراع، ولكن بعد رؤية الأطفال تدهسهم الدبابات، ومحاولة نقل صديقتها الفلسطينية (رنده) الحامل الى المستشفى للولادة وتكافح من أجل عبور نقطة التفتيش، لا يسع كلوي إلا أن تصبح غاضبة وتقحم بالوضع برمته. لا تنس أن القصف مستمراُ وسماع دوي الانفجارات تجعل حياة الانسان غير أمنة تحاول الكاتبة/المخرجة بشكل مثير للإعجاب صنع فيلم لا يختار أبدا جانبا واحدا من القضية. سلسلة متصاعدة من المشاهد، بلغت ذروتها حين تستيقظ كلوي على رنين هاتفها، لتدرك أن مريضتها وصديقتها رند في مخاض، لكنها ليست قريبة منها، فهي في تل أبيب والمسافة بعيدة، تحاول جاهدة الوصول إليها، وتصل لترى الحاجز مزدحماً، وقرار من الجنود الإسرائيليين بعدم السماح لأي شخص بالمرور، فتضطر إلى إجراء الولادة في الشارع، وبعد قدوم المولود، تقوم به إلى الحاجز لتقنع المسؤول الإسرائيلي بضرورة تمريرها لمعاينة الطفل، لكنه رفض، فيموت الطفل بين يديها، فتصاب بحالة من الصدمة التي تجعلها لا تؤمن بالحياد، خصوصاً إذا كانت لغة الموت هي السائدة، ومع نظرات العتاب من قبل رنده لها وتحميلها المسؤولية على فقدان طفلها بسبب تأخرها، تشعر الطبيبة كلوي بالذنب وتحمل المسؤولية عن موت طفلها. لأنها تأخرت في الوصول في لحظة مخاضها ولم تأت بسرعة كافية لأنها كانت تستمتع في تل أبيب مع أصدقائها اليهود. يزداد حنق الطبيبة "كلوي "على قوات الاحتلال وسلوكها مع المواطنين الآمنين، بعد أن أقرت أنه ليس وطناً، بل عبارة عن مكان مملوء بالحواجز الكثيرة، وما حدث ليس تصرف وطن راسخ، فهي ترقص وتسهر، وتعيش حياة مرفهة، لكن شعور الوطن شعرت به من ليلة واحدة عاشتها في بيت لاجئين، كل هذه المعاني تتضح في تصرفاتها وإصرارها على الانتقام من موت طفلين أمام عينيها وبين يديها، تدفع كلوي إلى اتخاذ قرار مصيري وحاسم له عواقب وخيمة. هذه العواقب على وجه التحديد هي التي ستثير الجماهير، مما يجعل الفيلم ناجحا في كل من الدراما الأخلاقية والطرح السياسي. ولابد للطبيبة (كلوي) من الانحياز الى صوت الحق والوقوف بجانب حق الشعب الفلسطيني في الحياة الحرة الكريمة بلا حواجز أو جدران عازلة أو نقاط التفتيش، تقوم بتهريب متفجرات في الحاجز الذي تعمل فيه صديقتها المجندة وتنجح، ليأتي المشهد بانفجار ونفس المشهد الذي بدأت به المخرجة فيلمها. وبعد مشهد صوت التفجير يأتي صوت المرأة الفلسطينية ( رند ) التي فجرت نفسها ، ونسمع صوتها وهي تقول ” هم من أوصلونا إلى تفخيخ أجسادنا؛ أن أموت كريمة أفضل من أعيش ذليلة، نحن أصحاب حق يموت على شكل أطفالنا وهم في بطوننا وأمام أعيننا، إن شاء الله سنلتقي مع ولدي في الجنة”، ليختم الفيلم في مشهد يشكل قصيدة سينمائية حين يظهر فيه الطفل صافي (شقيق رند الصغير) الذي لم يخلع بزة سوبرمان طوال الفيلم، وهو يجلس أمام الجدار ثم يفتح فيه ثقباً صغيراً، ومن خلال هذا الثقب ينظر الى وطنه ، وكأن المخرجة الكندية استحضرت قصيدة الشاعر العراقي الراحل يوسف الصائغ حين قال : ﺃﻧﺎ ﻻ ﺃﻧﻈﺮ ﻣﻦ ﺛﻘﺐ ﺍﻟﺒﺎﺏ ﺍﻟﻰ ﻭﻃﻨﻲ.. ﻟﻜﻨﻲ ﺃﻧﻈﺮ، ﻣﻦ ﻗﻠﺐ ﻣﺜﻘﻮﺏ.. ﻭﺃﻣﻴﺰ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻮﻃﻦ ﺍﻟﻐﺎﻟﺐ.. وﺍﻟﻮﻃﻦ ﺍﻟﻤﻐﻠﻮﺏ.. ﺍﻟﻠﻪُ ﻟﻤﻦ ﻳﺘﻨﺼﺖُ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﻗﻠﺐ! ﺃﻭ ﻳﺴﺘﺮﻕ ﺍﻟﺴﻤﻊ ﺍﻟﻰ ﺭﺋﺘﻴﻪ! ﻭﻃﻨﻲ ﻟﻢ ﻳﺸﻬﺪ ﺯﻭﺭﺍ، ﻳﻮﻣﺎ.. ﻟﻜﻦ ﺷﻬﺪﻭﺍ ﺑﺎﻟﺰﻭﺭ ﻋﻠﻴﻪ.. الخلاصة: تقدم المخرجة” أنايس باربو لافاليت” فيلما مؤثراّ ومقلقا ومتوازنا عن كوارث جيش الاحتلال بحق الفلسطينيين المدنيين وخلق الأرض الخصبة لمقاومة هذا القهر والظلم. * كاتب عراقي