لزم الملك عبدالعزيز وتأثر بحكمته وحنكته وكان محل ثقته..
عبدالله بن سليمان الحمدان.. «الوزير » قبل تأسيس الوزارات.

عند ذكر رجالات الدولة السعودية بعد توحيدها على يد المغفور له جلالة الملك عبدالعزيز، يأتي في مقدمة هؤلاء عبدالله بن سليمان الحمدان، الذي عرف بلقب «الوزير» أو كما وصفه الملك المؤسس رحمه الله بـ «رجل المهمات والأعمال الصعبة»، أو كما قال عنه في مناسبات عديدة: «عبدالله السليمان عصابة رأسي»، أما الملك فيصل رحمه الله فوصفه بأنه «أحد بُناة الدولة السعودية». لزم السليمان الملك عبدالعزيز ونال ثقته الكريمة وذلك بسبب نباهته وحرصه وتفوقه في الحسابات والتكاليف وخطه الجميل بالإضافة إلى تفانيه في عمله، فكان أول من حمل لقب وزير في المملكة حتى قبل أن تكون هناك وزارات، بسبب اعتماد الملك المؤسس رحمه الله، عليه في العديد من الأمور والمهمات الموكلة إليه. البداية من القصيم ولد عبدالله بن سليمان الحمدان في عنيزة عام 1304هـ الموافق 1883م لأسرة فقيرة، وتعلم أصول اللغة وعلوم الحساب وحفظ القرآن في الكتاتيب، ونشأ تاجرًا في منطقته التي اشتهرت بالتجارة، ثم تركها في البداية متوجهًا إلى شقيقه الأكبر محمد في البصرة عام 1318هـ لكنه لم يمكث بها طويلًا حيث ساءت صحته ولم يناسبه جو العراق، حتى غادرها إلى الهند التي كانت فرصة لتطوير معارفه وثقافته حيث التحق بالشيخ عبدالله الفوزان الذي قال عنه الشيخ الحمدان رحمه الله: «الشيخ عبدالله الفوزان هو من بلدتنا وهو رجل كريم الأصل طيب العنصر ما قصر معي بل أحلني من نفسه محل أولاده، وكان ينبهني ويهديني إلى الصواب دائمًا فكان عمله هذا حافزًا لي على الجهد والنشاط والتيقظ حتى استطعت بعد شهر أن أنال ثقته في شراء حاجات المنزل». ويضيف: «لم تمض عليَّ في هذه الحياة العملية سنتان حتى كنت موضع ثقته الكبرى، فسلمني محل تجارته بدفاتره وخزينته وسلعه، ووكل إليَّ إدارته». تعلم أصول المراسلات والاتصالات المباشرة بالبنوك في مكتب الشيخ عبدالله الفوزان في مدينة بومباي بالهند وتعلم اللغة الأردية والإنجليزية، وبعد أن مكث في الهند فترة من الزمن، وصل إليه بالبريد نبأ وفاة والديه فتأثر بذلك تأثرًا شديدًا، ثم كتب إلى أخيه الأكبر محمد أن يبعث إليه شقيقهما الأصغر حمد، فكان ذلك وحرص الشيخ عبدالله على تعليم أخيه حمد، وبعدها بمدة قرر أن يرسل أخيه حمد إلى البحرين لكي يفتتح لهم محلًا للبيع والشراء. التحاقه بالملك عبدالعزيز كان أخوه الأكبر محمد قد التحق بخدمة جلالة الملك عبدالعزيز رحمه الله، حيث كان يشغل رئاسة ديوانه، لكنه أصيب بضعف في السمع شديد، ما اضطره للاعتذار عن عمله، فبحث الملك المؤسس عن بديل له فأشار إليه بعض جلسائه بأن ينيب عنه أخاه في تلك المهمة. يقول الشيخ عبدالله السليمان عن ذلك: «ما شعرت وأنا في منزلي مهموم بديوني إلا ورسول جلالة الملك يطلبني للمثول بين يديه، فلبست بِشتي سريعًا حتى حضرت بين يدي جلالته فقال لي: هذا أخوك قد كان محل ثقتنا وكان يقوم بعمله خير قيام، ولكنه قد ثقل سمعه لذلك اخترناك مكانه، ونحن مسافرون غدًا إلى الرياض إن شاء الله فاستعد للخروج معنا، فأخذت اعتذر لجلالة الملك عن ذلك بكثرة ما علي من ديون وبارتباك أحوالي المالية، فأبى جلالته أن يقبل عذري، فطلبت الإمهال فأمهلني يومًا فاستزدته فزادني يومًا، وما زلت أستزيد جلالته حتى بلغت مهلتي أسبوعين بذلت في أثنائها كل ما أستطيع لتضميد جروحي المالية ولمّ شعثي المتفرق بإمهال الدائنين ريثما يجعل الله بعد عسر يسرًا». ويواصل: «حين حططت رحلي بالرياض العامرة أمر لي جلالة الملك بمنزل وأجرى علي الرزق وأغدق علي العميم من فضله، وبذلك بدأت حياة جديدة كان لها أكبر الأثر في نجاحي في حياتي كلها، ولكني ما كدت أستقر بالرياض حتى بدأ الدائنون يبعثون بالكتب إلى جلالة الملك، ويقولون فيها إنه أكل حقوقنا وما سدد ما عليه. وكان جلالة الملك يطلعني على كل كتاب منها، ويسألني هل صحيح ما يذكرون فيها؟ فأقول: نعم يا مولاي، ولم يخطر ببالي أبدًا أن أنتقص من حقوقهم شيئًا، غير أني أنتظر الفرج من عند الله، لأوفي كل واحد منهم حقه كاملًا، والله يقول: (فنظرة إلى ميسرة)، فأمرني جلالة الملك بالجلوس، وقال: أكتب (من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى المكرم عبد العزيز القصيبي، السلام عليكم ورحمة الله وبعد. إذا جاءك كتابي هذا فابحث عن الدائنين لعبد الله بن سليمان، وسدد لكل واحد ما عليه من دين، واجعل ذلك في حسابنا الخاص والسلام). فشعرت – عندئذ – كأني قد ولدت من جديد، وبذلك ملَك جلالة الملك رقبتي، إذ فكها من قيود هذه الديون في حين أني لم أكن قد قضيت في شرف خدمته إلا أيامًا قليلة لا تستوجب هذه الكرامة التي تفضل جلالته بها عليّ، فأنا مدين لجلالته بحياتي، ومهما ضحيت بنفسي وولدي وأهلي فلن أستطيع الوفاء بواجب شكر جلالته فأسأل الله أن يجزيه عنا أعظم الجزاء». أول وزير للمالية صحب الملك عبدالعزيز معه ابن سليمان في حملته على حائل التي دخلت تحت إدارة الملك المؤسس عام 1340هـ، فكان أول عمل مالي يتولاه السليمان هو جرد موجودات حائل وأموالها، فظل عاكفًا على هذه المهمة مدة ستة أشهر، وذلك يوضح مدى نزاهته وأمانته وحرصه الشديد على رصد كل صغيرة وكبيرة، وأدى ذلك إلى توطد علاقته بالملك عبدالعزيز، ثم أظهر السليمان براعة كبيرة في وقائع دخول الحجاز تحت الحكم السعودي، حيث تكفل بتموين الجيش وإمداداته، كما ساهم في زرع الثقة والطمأنينة في نفوس تجار الحجاز وأعيانها، خصوصًا تجار مكة بعد أن اجتمع بهم وكسبهم في صف الدولة بحكمته وخبرته التي اكتسبها من ملاصقته للملك المؤسس وتأثره الكبير به وبحكمته وحنكته. وكان نتاج ذلك أن عينه الملك عبدالعزيز سكرتيرًا له عام 1343هـ، ثم عين مديرًا عامًا للشؤون المالية والاقتصادية عام 1345هـ، وبعدها بعام أنشئت المديرية المالية العامة في مكة المكرمة وأوكلت مهامها لعبدالله السليمان، وكان من أهم أعماله في تلك الفترة سك أول عملة سعودية بعد أن رأى أن سعر الريال المجيدي والريال الفرنسي غير ثابت، كما اقترح بناء مصنع لكسوة الكعبة المشرفة فبنيت أول دار للكسوة عام 1346هـ. وفي عام 1348هـ أصبح الوكيل العام للمالية، فاضطلع بمهام دمج الإدارات المالية في الحجاز ونجد وبقية المناطق، ووضع موازنة للإيرادات والنفقات، وفي عام 1350هـ اختاره الملك عبدالعزيز ضمن أربعة من زملائه لتأسيس مجلس الوكلاء وهي اللبنة الأولى لمجلس الوزراء، ليأتي بعدها الأمر بتسميته وزيرًا للمالية عام 1351هـ فبات بذلك أول وزير للمالية في تاريخ الدولة السعودية، ومن هنا التصق به لقب «الوزير» الذي رافقه طيلة حياته العملية. أدار عبدالله السليمان شؤون الدولة المالية باقتدار حيث كان الملك عبدالعزيز يعتمد عليه في شتى أمور الدولة، حيث كانت وزارة المالية تتولى أمور كل الوزارات المتعلقة بالوضع الاقتصادي، مثل المواصلات، والحج والأوقاف، والتجارة، والاقتصاد والتخطيط التي كانت إدارات تحت مظلة وزارة المالية، فكان السليمان كما وصفه بعض المؤرخين بمثابة «رئيس وزراء». وتحدث كثير من المؤرخين عن الثقة التي نالها عبدالله السليمان عند الملك عبدالعزيز، ومن بينهم خير الدين الزركلي الذي عرف ابن سليمان، وعاين العديد من أعماله، فقال عنه: «كانت عادة ابن سليمان حين يجمعه بالملك عبدالعزيز بلد واحد في الرياض أو الطائف أو مكة أو جدة أو في مخيمات ابن سعود في البراري، أن يدخل عليه في غرفته الخاصة بعد صلاة الفجر من كل يوم فيعرض عليه ما يهمه من أعمال، ويخرج من عنده وقد نال الموافقة على جل ما يعرض عليه». شارك السليمان في مفاوضات الحرب السعودية اليمنية عام 1352هـ، ثم ترأس وكالة الدفاع والأمور العسكرية عام 1354هـ التي أصبحت فيما بعد «وزارة الدفاع الوطني». التوقيع مع شركة للتنقيب عن النفط وقع عبدالله السليمان باسم المملكة العربية السعودية وبتفويض من الملك المؤسس عبدالعزيز، أول اتفاقية تنقيب عن النفط مع شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا (سوكال) وذلك في الرابع من صفر عام 1352هـ، الموافق 29 مايو 1933م، حيث قال له الملك عبارته الشهيرة: «توكل على الله ووقع». بعد أعوام متواصلة من الحفر والتنقيب، رست ناقلة النفط التي أدار الملك عبدالعزيز الصمام بيده لتعبئتها بأول شحنة من النفط السعودي، وكانت هذه أول شحنة من الزيت الخام تصدرها المملكة على متن ناقلة في 11 ربيع الأول 1358هـ الموافق للأول من مايو عام 1939م، وكان السليمان حاضرًا وشاهدًا على هذه اللحظة التاريخية برفقة الملك عبدالعزيز. أعمال جليلة يذكر التاريخ العديد من الأعمال الجليلة التي قدمها عبدالله السليمان، ومنها حل الأزمة الاقتصادية في بداية الخمسينيات الهجرية التي تسببت بتوقف رواتب الموظفين حيث ابتكر نظامًا فريدًا يقضي بصرف ثلث الراتب نقدًا، وثلثه مؤنًا، والثلث الأخير قرضًا إلزاميًا لحين توفر النقود، ثم كلف الملك عبدالعزيز الوزير ابن سليمان بتوقيع عقد تأسيس للإذاعة فانطلق البث الإذاعي من جدة عام 1368هـ. وأسهم الوزير السليمان في إسقاط رسوم الحج عن ضيوف الرحمن وذلك بعد أن لمس بنفسه رغبة الملك عبدالعزيز في إلغائها، فتوصل إلى اتفاق مع شركة التنقيب عن النفط (التي تحولت إلى شركة أرامكو فيما بعد) يسمح للمملكة بمشاركة جزء من الأرباح، وبعد نجاحه في الوصول إلى هذا الاتفاق سارع بالكتابة إلى الملك عبدالعزيز يزف إليه البشرى، ذاكرًا له في الوقت نفسه أن الملك أصبح قادرًا على إلغاء رسوم الحج بعد أن أغناهم الله عنها، فكان قرار الملك المؤسس موافقًا لما اقترحه الوزير السليمان وذلك عام 1371هـ، وبعدها اقترح إنشاء مؤسسة النقد العربي السعودي، فصدر الأمر السامي بإنشائها وأصدر بعدها أول جنيه ذهبي سعودي. كما أشرف السليمان على العديد من المشاريع الزراعية المهمة، ومن أبرزها مشروع الخرج الزراعي، بالإضافة لجهود مقدّرة في نشر التعليم وتوسعة المسجد النبوي. ولما توفي الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، كتب السليمان للملك سعود طالبًا إعفاءه من مهامه بسبب تقدمه في السن، فحاول الملك إقناعه لكنه أصر فقبل رحمه الله استقالته، ليتفرغ بعدها السليمان لأعماله الخاصة. ويذكر له أيضًا مساهمته في إنشاء جامعة الملك عبدالعزيز حيث تبرع بأرضه وبأربعة من قصوره لإنشائها وطلب أن تحمل اسم الملك المؤسس، تقديرًا منه وإجلالًا لمليكه الذي قضى جل عمره في خدمته بكل تفان وحزم ونجاح. في الجانب التجاري، كان السليمان أول من بنى الفنادق من فئة خمسة نجوم في المملكة، وهو مؤسّس شركة «أسمنت العربية»، كأول شركة أسمنت في الخليج، بالإضافة لشراكات تجارية في مجالات عديدة. مُنح عبدالله السليمان وشاح الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى من قبل الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله عام 2012 وتسلمه أبناؤه، وتوفي السليمان عام 1385هـ (1965م) عليه رحمة الله. ألفت العديد من الكتب عن سيرته وحياته وإنجازاته منها كتاب (عبدالله السليمان الحمدان.. سيرة وتاريخ) من تأليف الأستاذ الدكتور عبدالرحمن بن سعد العرابي، وكتاب (عبدالله السليمان الحمدان.. صفحة مشرقة في تاريخ المملكة العربية السعودية) من تأليف الأستاذ عبدالرحمن بن سليمان الرويشد، وكتاب (عبدالله السليمان.. التاريخ المصور) ألفه فريق شركة تارة الدولية.