
يأتي السيد محمد طاهر الدباغ في طليعة مؤسسي التعليم الحديث في المملكة، فهو رائد النهضة التربوية والتعليمية، ليس في بلادنا فحسب، بل في عدد من الدول الإسلامية، حيث شغف بالتدريس منذ بداية شبابه، إلى أن تولى مديرية المعارف في عهد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، فأسهم بشكل بارز في نشر التعليم في مختلف أرجاء المملكة، وأثبت أنه على قدر الثقة التي أولاها إياه الملك المؤسس رحمه الله. يعود نسب أسرة الدباغ إلى الخليفة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقد ولد محمد طاهر الدباغ في مكة المكرمة عام 1308هـ كما يذكر الأستاذ محسن باروم في كتابه عنه، ويذكر بعض المؤرخين أن ولادته كانت في الطائف ومنهم الأستاذ محمد علي مغربي في كتابه (أعلام الحجاز في القرن الرابع عشر للهجرة)، لكن الأكيد أنه تلقى تعليمه الأولي في كتاتيب مكة المكرمة حيث حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، قبل أن يرحل وهو في العاشرة من عمره إلى مصر ليكمل تعليمه فيها فدرس القرآن الكريم وعلوم اللغة والحساب والتاريخ والجغرافيا والأدب، قبل أن يعود مرة أخرى إلى مكة المكرمة عام 1324هـ ليكمل تعليمه في الحرم الشريف الذي كان يعج بالكثير من العلماء الأفذاذ، فدرس على يد الشيخ محمد علي مالكي والشيخ جمال مالكي والشيخ مشتاق أبو أحمد الهندي وغيرهم حيث استفاد من غزارة علمهم وحكمتهم وبعد نظرهم وتأثر بهم كثيرًا، حيث درس عليهم وعلى غيرهم علوم الفقه والتفسير والحديث وأصولهما، ودرس علوم المعاني والبيان والبديع والتوحيد والمنطق والفرائض والحساب. وفي عام 1330هــ عين مدرسًا بمدرسة الفلاح التي افتتحت فرعًا لها في مكة المكرمة، وبعدها بثلاث سنوات تقدم لاختبار الشهادة العالية على يد لجنة من كبار علماء مكة المكرمة، وحصل على إجازة التدريس في الحرم الشريف، إذ كان يواصل دراسته بالحرم إلى جانب قيامه بالتدريس بمدرسة الفلاح التي ظل يترقى بها إلى أن أصبح مديرًا لها سنة 1335هـ. في أواخر عام 1336هـ تعين رئيسًا لمالية جدة، وبقي فيها لسنة 1343هـ حيث عين وزيرًا للمالية في أواخر عهد الحكومة الهاشمية. تنقله في عدة بلدان حدثت بعض الاضطرابات في الحجاز فهاجر الدباغ بأسرته جميعًا إلى مصر قبل أن يُحكم الملك المؤسس عبدالعزيز طيب الله ثراه قبضته على الحجاز، ومن مصر رحل الدباغ إلى اليمن ومنها إلى الهند ثم إندونيسيا حيث استقر في مدينة بايو واغي في جاوة الشرقية وتولى إدارة مدرسة عربية هناك فأحدث حراكًا تعليميًا وتربويًا واضحًا حتى امتلأت مقاعد الدراسة فيها إذ لم يكتف بالمناهج التعليمية فحسب بل أضاف إليها فنونًا من الأنشطة مثل الخطابة والإلقاء والمسرح والصحافة والرحلات، وبعد مدة رحل إلى حضرموت وأسس فيها مع أخيه حسين الدباغ وبعض أفراد أسرته مدرسة الفلاح، التي كانت أول مدرسة نظامية مهمة في تلك البلاد، ثم ما لبث أن قام برحلات وجولات أخرى في إندونيسيا وماليزيا ومصر والعراق. تعامل إنساني من الملك عبدالعزيز يذكر الدكتور عبدالعزيز بن عبدالرحمن الثنيان في كتابه (إنسانية ملك) قصة الدباغ مع الملك المؤسس عبدالعزيز طيب الله ثراه حيث قال: «عندما دخلَ الملكُ عبدالعزيز رحمه الله تعالى الحجاز عام 1343هـ 1924م، هاجَرَ مؤسسُ الحزب الحجازي الوطني الأستاذُ محمد بن طاهر الدّبّاغ رحمه الله إلى العراق مُحْتَجًّا على ذلك، وبَقِي سنوات خارج البلاد يَكتُب الرسائلَ واصفًا الملكَ وشعبَه بالجهل والتخلّف ويسخر بهم، وكان يقول ما هي إلا صولة ويزول هذا المُلْك.. إلا أنّ المَلِكَ الأبَ رحمه الله كان يُشفِق على هذا الشابّ المتعلّم الجانح، الذي غَرّه تعليمُه، وأغْوَتْه ثقافتُه، وكان لا يُلقِي بالًا لِمَا يقول.. وبعد سنوات أراد الدباغُ العَوْدة لمّا رأى بُزوغَ نجم الملك وتمكّنه من الحُكم واستتباب الأمن ورغد العيش، فكتب إليه يطلب منه السماح له بالعودة، فرحّبَ الملكُ بذلك أيّما ترحيب، وأرسل له السيارات لنَقْلِه من العراق إلى المملكة، وعندما وصل الدبّاغ استضافه الملكُ وأكْرمه وأحسن ضيافته لأيام، فشعر الدباغُ بالخَجَل، وتحدّث أمام الملك مُعتذِرًا ومُعترفًا بخطئه، وأثنى عليه بما حبَاه الله من الشمائل الحميدة والأخلاق السامية، وعبّر عن إخلاصه له وتشرّفه بالانضواء تحت لواء جلالته، وحَمِدَ اللهَ أنْ هداه بعد عشر سنوات وردّه إلى منهج الحق والصواب.. فقال الملكُ له أمام الناس: مرحبًا يا سيّد، لكنْ سَامِحْنا؛ لأنّك عندما كنتَ في العراق وتكتب لأصدقائك ومعارفك في الحجاز، كُنّا نَفتح تلك الخطابات، وأنتَ تكتبُ فيها أنّني مَلِكٌ جاهلٌ يَحْكُم شعبًا جاهِلًا، واليوم أصدرتُ قرارًا بتعيينك مُديرًا عامًّا للمعارف في البلاد لتُعَلِّم الجميع.. فلَمْ يَتَمَالك السيّدُ الدباغ هذا الموقف الإنساني النبيل، فجَلَس بعد أنْ كانَ واقفًا ثم توجّه إليه وسلّم عليه واعتذر منه، واعدًا بأنْ يُحقّق الطلَب الذي طلَبَه منه». صدر الأمر الملكي عام 1355هـ بتعيين محمد طاهر الدباغ مديرًا عامًا للمعارف، وكان سابع من تولى إدارة مديرية المعارف بعد كل من صالح بكري شطا (سنة واحدة) ومحمد كامل القصاب (سنة واحدة) ومحمد ماجد كردي (سنة واحدة) وحافظ وهبة (سنتان) ومحمد أمين فودة (ثلاث سنوات) وإبراهيم الشورى (سنتان). اهتم الدباغ بنشر التعليم في مختلف أنحاء المملكة فساهم في إنشاء المدارس الابتدائية في نجد، وشمل ذلك القصيم وشقراء ثم بادية الحجاز، وحائل والأحساء والجنوب، كما عمل على تعديل المناهج الدراسية وتطويرها، ودعم المعهد العلمي في مكة لكي يتخرج فيه مدرسون وقضاة، قبل أن ينشئ مدرسة تحضير البعثات في مكة (عرفت فيما بعد بمدرسة الملك عبدالعزيز)، وهي أول مدرسة ثانوية نظامية في المملكة، واستقدم لها الأساتذة وذلك لتهيئة الطلاب للدخول إلى الجامعات والمعاهد العليا في مصر، ووضع لها البرامج التي تتفق ومناهج المدارس الثانوية في مصر، وقد فتح الباب لجميع الطلاب الراغبين في الالتحاق بها من جميع أنحاء المملكة بتوفير السكن والإعاشة للقادمين من خارج مكة، وعن ذلك يقول الأستاذ محمد علي مغربي في كتابه (أعلام الحجاز): «مدرسة تحضير البعثات كانت هي المهد الذي احتضن كل المبتعثين إلى الخارج في ذلك الوقت والذين تخصصوا في الدراسات العليا المختلفة كالطب والهندسة والتعليم وخلافهم، ومن تلامذتها تخرج الوزراء والأطباء والمهندسون والعلماء، نذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر السادة أحمد جمجوم والدكتور حسن نصيف والسيد أحمد شطا والدكتور عبداللطيف جمجوم والدكتور الهرساني والسيد عبدالله الدباغ والعلامة حمد الجاسر وكثيرون غيرهم». وأنشأ أيضًا دار البعثات في مصر وأسند إدارتها إلى مديرين مشهود لهم بالكفاءة حيث كانت تضم الطلبة المبتعثين وتوفر لهم السكن والطعام والشراب حيث اهتمت بشؤونهم الدراسية والمعيشية، مما أسهم في تخريج جيل من الكوادر العلمية المتميزة التي أسهمت في النهضة التعليمية والتربوية. كما عني الدباغ بتعليم الأمراء حيث كانت هناك مدرسة أطلق عليها «مدرسة الأمراء» لكنها كانت على نطاق ضيق حيث اهتم بتوسعتها وتنظيمها عام 1356هـ ثم اندمجت مع مدرسة أنجال ولي العهد وأصبح منهما معهد العاصمة النموذجي. ويذكر الأستاذ محسن باروم بعضًا من إنجازات الدباغ في المجال التعليمي ومنها كما يقول: «تقوية وتدريب المعلمين الوطنيين في علومهم وفق الأسس التربوية الحديثة عبر دورات تدريبية ودراسات ليلية ومحاضرات وهذه الدراسات لها تأثير في رقي المعلم وزيادة مخصصاته، والاستفادة من بنود الميزانية في أعمال إنشائية لإصلاح المدارس، وتجهيزها مثل تجهيز أول معمل كيميائي، وتعديل وتطوير المناهج وتحويل المدارس التحضيرية إلى مدارس ابتدائية وذلك بدمج المرحلة التحضيرية في مرحلة واحدة ست سنوات بدلاً من سبع والدراسة الثانوية ست سنوات بدلاً من خمس بالإضافة إلى زيادة مقررات الرسم - مبادئ العلوم - الهندسة وإدخال مادة التربية البدنية لأول مرة مع إحضار الأجهزة اللازمة وجعل درسها إجباريًا، وإنشاء فصول ثانوية ببعض المدارس الابتدائية، ووضع مشروع فتح مدرسة دار التوحيد، وإنشاء نواة الحركة الكشفية بالمملكة». وبعد فترة السيد الدباغ عين فضيلة الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع مديرًا عامًا للمعارف، وبعده تحولت مديرية المعارف إلى وزارة، وكان أول وزير لها صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبدالعزيز (قبل أن يصبح ملكًا رحمه الله). وفي عام 1364هـ عين الدباغ عضوًا بمجلس الشورى وظل فيه إلى عام 1372هـ حيث طلب إحالته إلى التقاعد لمرضه. كان الدباغ ينظم الشعر كما ألف مختصرًا في السيرة النبوية، وأخرج مختصرًا في الحديث «الترغيب والترهيب» مع بعض زملائه الأساتذة. ومن شعره ما ذكره محسن باروم في كتابه عنه حيث نقل إنه وجد له شعرًا في إحدى المجلات ينعي فيه محمد بن عبدالرحمن بن شهاب وهو أحد كبار المعلمين والكتاب في إندونيسيا، قال فيه: قالت ودمعي هاطل كسحاب والحزن حزن مؤله منتاب ما إن عهدتك جازعاً لملمة جلت ولا متوجعا لمصاب ما بال صبرك قد دعت أركانه وضللت كل محجة لصواب هل ذا لبعد أحبة فارقتهم أم هل أتى ما لم يكن بحساب فأجبتها والحلق غص بريقه أوما سمعت النعي بابن شهاب بمحمد صمو المكارم والعلا ومعيد مجد جدوده الأنجاب إلى أن قال: ما مات من في مثلكم خلف له فنمير فيضكم كزخر عباب والله اسأل أن يخفف عنكم آلام فقد السيد الأواب ويعيضكم خلفا جميلاً ذكره ويحقق الآمال في الأحباب وفي صحيفة (الأيام البحرينية) قال الأستاذ عبدالله المدني: «وقد تطرق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز قبل أن يتولى المُلك في محاضرة ألقاها في جامعة أم القرى في يوم السبت 28 مارس 2008 حول سياسة والده المؤسس في التعامل مع معارضيه إبان حقبة التوحيد وبناء الدولة، وكيفية التعامل معهم بإنسانية وكرم، فخصّ الدباغ بالذكر كنموذج للسياسي المعارض الذي عاد ليتحمل مسؤولية النهوض ببلده. والحقيقة أن استشهاد الملك سلمان بالدباغ كان في محله لأن الأخير عاد وقبل التحدي وهو يعلم أن ما أوكل إليه من مسؤوليات وقتذاك كان جسيمًا في ظل ندرة الإمكانيات المادية والبشرية، غير أن ما شجعه هو ثقة الملك عبدالعزيز فيه ومنحه صلاحيات مطلقة لتطوير ونشر التعليم في كافة أرجاء مملكته انطلاقًا من دار الحكومة بمنطقة الحميدية في مكة المكرمة. وهكذا راح الدباغ بمجرد استلامه لمهامه يعمل على نشر التعليم النظامي في جميع مناطق المملكة وأطرافها، موظفا في ذلك خبرة إدارية تكونت لديه من عمله مسؤولًا عن مالية جدة في العهد الهاشمي. هذا ناهيك عما تراكم لديه من علوم ومعارف وثقافة من مشاهداته وعلاقاته في البلاد التي تنقل بينها بعد خروجه من الحجاز». مرضه ووفاته أثر المرض على بصر الدباغ فارتحل إلى مصر للعلاج وظل يتنقل بين جدة والقاهرة ثم سافر إلى لندن مرتين على نفقة الحكومة إلى أن وافاه الأجل المحتوم في القاهرة عام 1378هـ ودفن بها رحمه الله رحمة واسعة. وكتب عنه الأستاذ عبدالوهاب آشي بعد وفاته: «المربي الفاضل الكبير السيد طاهر الدباغ ذلك الذي جاهد بكل ما يملك من نفس طيبة وفكر نير وهدى قويم في مجالات العلم والتربية والمقاصد الوطنية السامية، طوراً مدرّساً يستهوى قلوب طلابه ويمتلك قلوبهم بعلمه الغزير وأسلوبه الحكيم وتهذيبه النفّاذ إلى النفوس، وما أنسى حينما كنت طالبا بمدرسة الفلاح المكية كيف كنا نحن الطلبة نتهافت على تلقى دروسه في التاريخ الإسلامي والأدب العربي والحساب والجغرافيا بشغف وإعجاب، ونستوعب ما يلقيه علينا بطريقته الجذابة الخلابة في فهم سريع وإدراك سهل، وهو وإن كان استعمل معنا العصا إذ ذاك في بعض حالات الشقاوة التي تعترينا، والشقاوة تكاد تكون من لوازم التلمذة في جميع الأزمنة والأمكنة! إلا إنه كان رؤوفاً حكيماً في استعمالها للتربية والتأديب حيث لا ينفع سواها، آخذاً بقول الشاعر الحكيم: فقسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم وإنه لمبدأ في التربية سليم.. وتارة مناضلًا في سبيل مبادئه الوطنية، يتحمل الشدائد والمحن من أجلها بعيدًا عن موطنه وعشيرته، ويذعن للمصلحة الوطنية عندما تدعوه للواجب الذي يعتقد أن لا مناص عنه، وآونة قائدًا يدير دفة المعارف بحنكة ومعرفة وكياسة في محيط محفوف بكثير من الأشواك والعقبات حتى هيأ لنا جيلاً نعتز بما نراه فيه الآن من علم ودراية، يحمل الأمانة العلمية والوطنية بإقدام وحكمة وشجاعة في وزارة المعارف وغيرها من الوزارات والمصالح الحكومية والأهلية. وأخيرًا قضى العلم الشامخ نحبه بعد عمر طويل كله نفع وأفضال، نقي السيرة طاهر الذيل، أثابه الله عنا أحسن الثواب وطيب ثراه بعبير الجنان».