عام الحرف اليدوية 2025..

المباخر.. تاج مجالسنا وعبيرها.

منذ أقدم العصور، ظلَّ الإنسان يبحث عن وسيلة تُطيِّب الأجواء وتبعث في المكان عبقًا يحمل في ثناياه هوية ثقافية واجتماعية، فكانت المباخر أحد أقدم الاختراعات التي عبَّرت عن هذا الشغف. في المجالس العربية، لم تكن المبخرة مجرد أداة وظيفية تُستخدم لنثر روائح الطيب، بل صارت رمزًا للحفاوة والكرم، وعنوانًا للضيافة الأصيلة، تطوَّرت أشكالها، لكنها لم تفقد هويتها، إذ بقيت تتربع في زوايا البيوت، تسرد بفخامتها قصة ارتباطها الوثيق بالتراث، وإذ تحتفل المملكة هذا العام بعام الحرف اليدوية، لا يسعنا إلا نمّر على هذه الحرفة التي لا تزال متوارثة جيلاً بعد جيل، محافظةً على أصالتها رغم تطورات العصر، فبين الخشب المحفور بدقة، والمسامير النحاسية اللامعة، ورائحة العود المتصاعد، تبقى المبخرة شاهدة على جماليات التراث، وإحدى أهم التحف الفنية التي تجمع بين الوظيفة والجمال. المبخرة وكرم الضيافة لم تكن المبخرة مجرد قطعة جامدة توضع في زوايا المجالس، بل تحولت إلى طقس يومي يُعبّر عن الكرم وحسن الضيافة، ففي البيوت السعودية، لا يكتمل استقبال الضيف إلا بمرور المبخرة بين يديه، حيث يتعطر بها إيذانًا ببدء جلسة عامرة بالمودة، وكما أن القهوة والتمر من أساسيات الضيافة، فإن البخور والمبخرة جزء أصيل من هذه العادات التي تعكس طبيعة المجتمع العربي وارتباطه بالطيب. فمع كل إشعال لجمرة صغيرة في جوف المبخرة، يتصاعد دخان العود محملاً برائحة تعبق في أجواء المكان، فتُشعر الحاضرين بدفء الاستقبال وكرم المضيف، وهذا ما جعلها عنصرًا لا غنى عنه في المناسبات والأعياد والاحتفالات الرسمية، حيث تُستخدم لتعطير أماكن المجالس واستقبال الضيوف بأسلوب يضفي على الأجواء لمسة من الفخامة والاحترام، وعلى مر الزمن اختلفت أشكال المباخر وتصاميمها، لكن رمزيتها بقيت ثابتة، فمن “مدخنة الطيب” في الدولة السعودية الأولى، إلى المجامر التقليدية التي تصنع اليوم بحرفية عالية، ظلت المبخرة جزءًا من هوية المجتمع، تروي قصص الضيافة والمودة، وتحفظ في طياتها أسرار الطيب وأصالة التقاليد. صناعة دقيقة تمثل حائل أحد المعاقل الأساسية لصناعة المباخر التقليدية، حيث أبدع الحرفيون في تشكيلها وتزيينها بلمسات فنية دقيقة، تُصنع المباخر الخشبية التقليدية في ورش صغيرة، تبدأ خطواتها بانتقاء أجود أنواع الأخشاب، مثل خشب الطرفاء والأثل، المعروفين بصلابتهما وقدرتهما على تحمل درجات الحرارة العالية، وبعد ذلك تُنجر الأخشاب وتُشكل وفق التصميم المطلوب، ثم يُنحت جوفها بعناية ليكون جاهزًا لوضع الفحم المشتعل. تزيين المبخرة هو الخطوة الأكثر إبداعًا، حيث تُطعّم بالمعادن كالفضة والنحاس، وتُرصّع بالمرايا الصغيرة، وتُثبت عليها المسامير ذات الأقراص البارزة التي تضفي عليها لمسة جمالية مميزة. بعض الحرفيين يتبعون تقنيات خاصة في النقش والتطعيم، ما يجعل كل مبخرة فريدة من نوعها، تحمل بصمة صانعها وتروي قصة مهارته المتوارثة عبر الأجيال، ولا تقف المباخر عند كونها تحفًا جمالية، بل إنها أيضاً رمزٌ لصناعة يدوية متقنة، وقد يستغرق الحرفي ساعات طويلة لصنع كل قطعة، ويختلف سعرها حسب جودة المواد المستخدمة ودقة الزخرفة وقيمتها الفنية العالية. ورغم تمسك السعوديين بالمباخر التقليدية، إلا أن هذه الصناعة شهدت تطورات كبيرة، حيث ظهرت تصاميم حديثة تناسب الأذواق المختلفة، ولم تعد المباخر محصورة في الأخشاب والمعادن، بل ظهرت منها أشكال مصنوعة من الكريستال والفخار، وأخرى مزينة بأحجار الخزف الملونة، أو مطلية بالذهب والفضة لإضفاء لمسة من الفخامة، كما أن التقنيات الحديثة أضافت بُعدًا عمليًا لصناعة المباخر، فانتشرت المباخر الكهربائية التي تعمل دون الحاجة للفحم، كما ظهرت “المبخرة الذكية”، التي تتيح تعطير المكان بضغطة زر، مستبدلة بذلك الطرق التقليدية في إشعال البخور، هذه الابتكارات لم تلغِ المباخر اليدوية، بل زادتها قيمة، إذ باتت تمثل أصالة الماضي في مواجهة الحداثة، وحافظت على مكانتها كقطعة تراثية فاخرة. مكانة خاصة تحظى المباخر بمكانة خاصة في الحرمين الشريفين، حيث تُستخدم لتعطير المسجد الحرام والمسجد النبوي يوميًا، ليحظى الزوار والمعتمرون بأجواء مشبعة بالروائح الزكية، مباخر الحرمين تختلف عن غيرها في تصميمها، إذ تُصنع من المعادن الفاخرة، كالنحاس والفضة، وتتميز بزخارفها الإسلامية الدقيقة التي تعكس روح العمارة الإسلامية. ولا يقتصر دور المبخرة هنا على نشر العطر فحسب، بل تمتد رمزيته إلى تعظيم الشعائر الدينية، حيث يُنظر إلى البخور كعنصر يُضفي روحانية خاصة على المكان، لهذا تحرص الجهات المشرفة على الحرمين على اختيار أجود أنواع العود، واستخدام مباخر متينة تتناسب مع قدسية المكان، ما يجعلها جزءًا لا يتجزأ من أجواء الطمأنينة التي تغمر الزوار. عبيرٌ لا ينضب لم تعد المباخر التقليدية صناعة محلية مقتصرة على الأسواق السعودية، بل أصبحت رافدًا اقتصاديًا مهمًا، حيث زاد الطلب عليها في دول أخرى، نظرًا لجودتها العالية وتصاميمها الفريدة، الحرفيون في حائل نجحوا في تحويل هذه المهنة إلى مصدر دخل رئيسي، وأصبحت منتجاتهم تُصدَّر إلى مختلف الدول، ما جعلها تحظى بمكانة مرموقة في الأسواق العربية، وفي كل مرة يُعرض نموذج جديد من المباخر، يجد طريقه سريعًا إلى محبي التراث، فهناك من يفضل المباخر التقليدية المطعمة بالنحاس، وهناك من يبحث عن التصاميم العصرية المزينة بالأحجار اللامعة، ومع هذا التنوع تظل المباخر الحائلية الأكثر شهرة، لكونها مصنوعة يدويًا بمهارة استثنائية، تعكس جمال الحرفة وروح الأصالة. في حائل، كما في باقي مناطق المملكة، يواصل الحرفيون صقل مهاراتهم للحفاظ على هذه الحرفة، مقدمين للعالم تحفًا فنية تروي حكايات الزمن الجميل، وبين عبق الماضي وأصالة الحاضر، تظل المباخر أحد أهم الرموز التراثية التي تجسد ثقافة الضيافة العربية، سواءً كانت من الخشب أو النحاس أو الكريستال، فإنها تحمل في ثناياها إرثًا لا يندثر، وعبيرًا لا ينضب.