أحد كبار رواد الحركة الثقافية وثاني وزير مالية..

محمد سرور الصبان.. أول أمين عام لرابطة العالم الإسلامي.

يستأثر الشيخ محمد سرور الصبان رحمه الله بمكانة مميزة في تاريخ المملكة العربية السعودية، استحقها عن جدارة لكثرة مناقبه ومناصبه ومساهماته، فقد لازم ملوك هذه الدولة التي أفنى عمره في خدمتها بكل إخلاص، بدءًا من الملك المؤسس عبدالعزيز طيب الله ثراه، مرورًا بالملك سعود ثم الملك فيصل رحمهما الله، كما يعد الصبان رائد الحركة الثقافية والأدبية في المملكة العربية السعودية، وكبير الرعيل الأول من الأدباء في الحجاز، وصاحب أول كتاب أدبي في الحجاز والمملكة عامة، وهو كتاب: (أدب الحجاز) الصادر عام 1344هـ/ 1925م، وهو أيضًا ثاني وزير للمالية بعد الشيخ عبدالله السليمان الحمدان، وصاحب فكرة إنشاء رابطة العالم الإسلامي وأول أمين عام لها، فضلًا عن أعماله ومساهماته الخيرية وكرمه وبذله للمحتاجين. ولد الشيخ محمد بن سرور الصبان بمدينة القنفذة عام 1316هـ ثم انتقل في صباه مع أسرته إلى جدة حيث تلقى أولى علوم القراءة والكتابة والتجويد والحساب في «كتّاب صادق» بجدة، ثم انتقلت الأسرة إلى مكة المكرمة بحكم أعمالها ونشاطها التجاري فأكمل تعلمه في «مدرسة الخياط» بمكة، ولم يكن التعليم الأولي كافيًا له إذ كان شغوفًا بالقراءة العميقة فنهل من علوم الأدب والتراجم وكتب التاريخ والفلسفة والاجتماع والاقتصاد والمال، وأسهم ذلك في توسع مداركه وسعة اطلاعه وبعد نظرته. يقول الصبان حول تعليمه في كتابه (أدب الحجاز): «وتعلمت القراءة والكتابة والتجويد والحساب فقط -فقط لا غير- في جدة ومكة- في المدارس التي كانت موجودة في ذلك الحين وتركتها للحياة العلمية من غير أن أتمم دروسي». ويقول في موضع آخر من كتابه: «فلم يكن للعلم دور يجد فيه الطالب المتعطش طلبته من العلم والأدب اللهم إلا مدارس ابتدائية ضيق عليها الخناق، لا تتعدى حيزًا محدودًا لها، وإلاَّ كتاتيب بسيطة يفك فيها الطالب الحرف ثم يترك حبله على غاربه يشرق أو يغرب، ولم يدرس في المسجد الحرام إلا طرفًا من العلم يتلقاه أنماط من الأهلين والمجاورين على نية الفتوح والبركة لهم، أو على نية العيش لمعلميهم. على ذلك نشأ جيل الشبيبة وعلى مثل ذلك درج آباؤنا والأجداد منذ ذلك العهد الذي تهدم فيه بنيان العلم في هذا البلد المقدس واندكت فيه صروح الأدب والأدباء». حياة عملية حافلة منذ الصغر انخرط في الحياة العملية مبكرًا فاشتغل مع والده لسنوات في التجارة، قبل أن يتم تعيينه كاتب يومية بإدارة بلدية مكة في عام 1336هـ، ثم رقي إلى وظيفة محاسب فرئيس كتاب، وعندما تولى حكم البلاد الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله، عينه رئيس كتاب بلدية مكة المكرمة عام 1343هـ، ثم سكرتيرًا للمجلس الأهلي، كما عينه الملك عبدالعزيز في وظيفة معاون لأمين العاصمة المقدسة سنة 1344هـ، ثم تمت ترقيته في سنة 1352 إلى وظيفة رئيس قلم التحريرات بوزارة المالية زمن وزيرها الأشهر والأبرز الشيخ عبدالله السليمان، ثم تولى منصب مدير عام لإدارة وزارة المالية، وبعدها عين مستشارًا عامًا للوزارة، كما عينه الملك المؤسس وزيرًا مفوضًا من الدرجة الأولى. وبعد وفاة الملك عبدالعزيز، طلب السليمان إعفاءه من مهامه في وزارة المالية، فلم يجد الملك سعود أفضل من الصبان لتولي المنصب خصوصًا أن السليمان رشحه وزكّاه، كما كان الصبان قد عمل في الوزارة لسنوات كمدير عام اكتسب خلالها خبرة عملية وحنكة إدارية مميزة. وفي عام 1372هـ صدر مرسوم ملكي يقضي بإنشاء وزارة للاقتصاد، وأسندت مهام الوزارة الجديدة للشيخ عبدالله السليمان إلى جانب وزارة المالية، وبقي الشيخ محمد سرور الصبان يدير الوزارتين حتى أدمجتا في أول تشكيل وزاري في عهد الملك سعود عام 1373هـ، لتصبحا وزارة واحدة بمسماها الجديد «وزارة المالية والاقتصاد الوطني»، وأصبح الصبان أول وزير لها بموجب المرسوم الملكي الصادر عام 1374هـ. رائد الأدب في الحجاز يحظى الشيخ محمد سرور الصبان بمكانة أدبية رفيعة حيث وصفه أحمد زكي أبو شادي صاحب مدرسة أبوللو الشعرية بـ «زعيم الحركة الأدبية في الجزيرة العربية منذ نشأتها، ومن أصحاب الرعيل الأول الذين أسهموا في بناء صرح الأدب السعودي، وهو شاعر وجداني وكاتب اجتماعي من الكتاب المبرزين». أسس الصبان «المكتبة الحجازية» فطبع ونشر العديد من الكتب المهمة على نفقته الخاصة ووزعها مجانًا دون مقابل دعمًا وإسهامًا في الحركة الأدبية وتشجيعًا للأدباء والمفكرين، ثم أسس (الشركة العربية للطبع والنشر) التي اشترت من الشيخ محمد صالح نصيف جريدة ومطبعة الحجاز وامتياز صحيفة (صوت الحجاز سابقًا البلاد حاليًا) عام 1354هـ. أصدر الصبان أول كتاب أدبي في المملكة العربية السعودية وهو كتاب (أدب الحجاز) وكان عمره 28 عامًا، الصادر عام 1344هـ - 1925م، عن المكتبة الحجازية بمكة المكرمة التي تعود ملكيتها له، وهو أول كتاب أدبي في الأدب العربي في المملكة، وقد ضم شعرًا ونثرًا لعدد من أدباء الحجاز، وبعدها بعام أصدر كتاب (المعرض) عام 1345هـ - 1926م، وتضمن آراء أدباء الحجاز الشبان حول قضية ملحة هي الكتابة باللغة العربية الفصحى أو اللغة الحديثة وتضمن السؤال: «هل من مصلحة الأمة العربية أن يحافظ كتابها وخطباؤها على أساليب اللغة العربية الفصحى، أو يجنحوا إلى التطور الحديث، ويأخذوا برأي العصريين في تحطيم قيود اللغة، ويسيروا على طريقة حديثة عامة مطلقة؟»، وكانت الإجابة على السؤال بين التأييد والرفض. وقد يفوت على البعض أدب الصبان وكتاباته وشعره الجزل الذي يفيض عذوبة وحكمة، ونورد جزءًا من قصيدته المسماة «عاطفة نفس» التي يقول فيها: وترك الشيخ الصبان مكتبة خاصة عامرة بأكثر من 5 آلاف من أمهات الكتب المطبوعة والمخطوطة في شتى مجالات المعرفة، وقد قام ابنه عبدالرحمن بالتبرع بها. أعماله ومساهماته الاجتماعية تنوعت أعمال الشيخ محمد سرور الصبان الذي استفاد من مرافقته لوالده الذي كان تاجرًا في الجلود ومجالات أخرى فاكتسب خبرة تجارية وعملية، وقال عنه د. محمد سالم بن عبدالله سرور الصبان لدى تكريمه في اثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة رحمه الله: «يبرز دور محمد سرور الصبان كرائد اقتصادي، في وقت عزّ فيه وجود الاقتصاديين بالمفهوم الفكري الحديث، كما هو رجل أعمال وصاحب منشآت اقتصادية عديدة. هذه الأعمال كلها، التي بدأها قبل التحاقه بالعمل الحكومي كمستشار للملك عبد العزيز آل سعود طيب الله ثراه، ومدير إدارة بوزارة المالية في عهد المرحوم عبدالله السليمان، قبل أن يصبح ثاني وزيرٍ للمالية في المملكة العربية السعودية. وهو الذي تقدم بعد التحاقه بالعمل الحكومي، باعتذار من الملك عبد العزيز يطلب فيه إعفاءه من العمل الحكومي؛ لاستحالة تركه لعمله الخاص، الذي توسع فيه وقتها بشكل كبير. فكان أن وافق الملك عبد العزيز رحمه الله على أن يجمع بين الاثنين، ويكاد يكون الأمر الملكي الوحيد الذي صدر منذ تأسيس المملكة العربية السعودية بجواز جمع العمل الحكومي مع العمل الخاص. هذا الحس الاقتصادي الذي ولد به المكرّم المرحوم محمد سرور الصبَّان جاء في مدة كان الاقتصاد السعودي في مراحله المبكرة، ولم يكن وقتها قد اكتشف البترول». وتابع: «كانت البداية عبارة عن شركات عائلية ضمت الإخوة الثلاث، وبدأت بتأسيس «المكتبة الحجازية»، وواضح أن هدف هذه المكتبة لم يكن تجاريًا بحتًا بقدر ما هو خدمة للمثقفين من أبناء الحجاز، كما أنشأ الإخوة الثلاثة شركة الفلاح للسيارات وقد أدارها المرحوم عوض سرور الصبان قبل أن تنضم إليها شركة القناعة للسيارات، التي امتلكها سابقًا الشيخ محمد الطويل رحمه الله، لتعرف الشركة الجديدة بالشركة العربية للسيارات. ويعدّ مجال شركات السيارات مجالًا حيويًا لنقل الحجاج والمعتمرين إلى مكة والمدينة، وكان يلبي طلبًا متزايدًا ما يدل على الحس الاقتصادي». ويكمل: «أسس شركات عديدة تلمس حاجة المجتمع لها، مثل الشركة العربية للتوفير والاقتصاد والشركة العربية للصادرات لتهتم بتصدير العدد المحدود من السلع المنتجة وقتها مثل الجلود والملح البحري والمسابح، أما بقية الشركات التي أسسها فتمثلت في شركة «مصحف مكة»، وشركة ملح وكهرباء جازان، والشركة العربية للطبع والنشر، كما كان المرحوم محمد سرور الصبان رائد إنشاء مؤسسات العمل المدني، إذ أنشأ بعض الجمعيات الخيرية، التي وجد أن المجتمع بحاجة لها مثل «جمعية الإسعاف»، التي كانت بجانب دورها الطبي مركز اجتماعات ومحاضرات المثقفين. و»جمعية القرش» و»جمعية المواساة» وكلتاهما تهدف إلى دعم الشعب الفلسطيني». وعن حياته الأسرية، ورد في صحيفة (الندوة) على لسان خالد بن علي الحناوي، أحد قدامى موظفي وزارة المالية بمكة: «عاش معالي الشيخ محمد سرور الصبان حياة أسرية هادئة ومثالية، وكان حنونًا كريمًا أبًا وأخًا لكل أفراد أسرته، شديدًا في غير عنف، وحنونًا في غير ضعف. وتزوج من زوجتين وأنجبت له الأولى حسن وعبدالرحمن، وزوجته الأخرى هي خديجة حناوي وأنجبت له جواهر ومصباح وعبدالباري ويكنى (بأبي حسن)، فرغم وجود كل عوامل الحياة المرفهة ووجود عدد من الخدم والحشم غير أن أموره الخاصة كانت المسؤولة عنها زوجته خديجة حناوي؛ فكانت هي القائمة على خدمته وراحته فيما يخص مطعمه ومشربه وملابسه وطيبه وبخوره.. كل ذلك كانت زوجته تقوم به إلى أن يغادر منزله إلى عمله». أول أمين لرابطة العالم الإسلامي عاش الشيخ محمد سرور الصبان لفترة في القاهرة، لكن بعض الظروف السياسية أجبرته على الكتابة للملك فيصل رحمه الله، فأعاده الملك إلى المملكة وكلفه عام 1381هـ بتأسيس «رابطة العالم الإسلامي» تطبيقًا لقرار مؤتمر العالم الإسلامي الذي عقد في تلك السنة بمكة، فتولى الصبان منصب الأمين العام للرابطة ما بين عامي 1381 و1390هــ، وبذل خلال هذه الفترة الكثير من الجهد والمهارة دون تقاضي أي راتب، لتتحول الرابطة إلى كيان كبير رغم قلة مواردها. وفي عام 1392هـ توفي بالقاهرة على إثر نوبة قلبية داهمته، وتم نقل جثمانه جوًا، وصلي عليه في المسجد الحرام، ودفن بمقبرة المعلاة بمكة المكرمة، عليه رحمة الله.