التنوع بصفته حاجة.

المجتمعات بمختلف تكوينها السكاني والثقافي منذ قديم الزمن تعيش التنوع، الظواهر لا تولد فجأة، والتنوع لم يطرق الباب بالأمس، الفرق أن مجتمعاً أدركه وآخر رفضه، قد يختلف شكل التنوع في مجتمع عن غيره لكنه موجود، الناس في أحوالهم مختلفون، يستحيل أن يتماثل البشر في أعراقهم وألوانهم وقدراتهم تماماً كما يستحيل أن يكونوا أبناء رجل واحد، التنوع جوهر في تكوين الناس وأساس في بنيتهم الاجتماعية، اختلاف الناس وتنوعهم صحة للمجتمع ووفرة حظ من النجاح لمؤسساته، مؤسسات تتعدد فيها طرق النجاح وتتنوع صور الإبداع ومجالات الابتكار وسبل حل المشكلات، التنوع ثروة الأوطان وإدراك قيمة هذه الثروة البشرية لا يعني امتلاك قيمة اجتماعية وحسب وإنما امتلاك أداة اقتصادية وقوة مؤسسية كبيرتين. أدرك الغرب أهمية التنوع في مؤسساته وضرورة حمايته وتحقيقه، جاء الإدراك بعد صراع طويل ضده لم يخلف ذلك الصراع سوى الكراهية وتفكك مؤسساته وهدر الطاقات والكفاءات، مؤسسات حاربت التنوع فكان الثمن خسارتها وأقصت المختلف فكانت النتيجة ضعفها، غير أنها وبعد أن أدركت أن التنوع الذي تحويه داخل حدودها ليس إلا قيمة اقتصادية كبيرة واستغلاله نجاح ومقاومته خسارة، تحولت بقناعة لتستثمر في الجميع، أصبح التنوع قضية وطنية وتحقيقه هدف اقتصادي، ورفضه ليس إلا تنازلاً عن صناعة وطن يمضي ولا يقف. في بادئ الأمر لم يكن التفات تلك الدول للتنوع نتيجة وعي بدوره أو استشعاراً بحق الجميع المتساوي في الفرص، قطعاً لا شيء من ذلك كان مطروحاً على طاولة المسؤول ولا في خطط أصحاب المال والأعمال، كان المختلف مرفوضاً بصفته خطراً يهدد مصالح الأبيض في ماله وممتلكاته وفرصه وامتيازاته، لم يكن يعي حينها أن إقصاء ذلك المختلف هو الخطر الحقيقي. في النصف الثاني من القرن الماضي لم يكن أمام حكومات الغرب سوى الرضوخ لمطالبات الشعب والأقليات وإخماد نار غضبها، بدأت حينها مرحلة جديدة، ظهرت قوانين وتلاشت قوانين، ألغيت أنظمة الفصل العنصري وقوانين التمييز، سنت قوانين تضمن الحق للجميع وسياسات تمنح الفرص للجميع، اندمج الجميع مع بعضهم في عمل واحد ومكان واحد، تشاركوا المهام، عملوا سوياً على التحديات وحلوا معاً المشكلات، اكتشف الأبيض - المسؤول والمستثمر - أن مشاركة غيره في المنافسة والفرص واتخاذ القرار هي مفتاح النجاح وجني الأرباح، أدركت المؤسسات لاحقاً أن التنوع أداة نجاح، تنوع الأفكار والأدوات والسمات ليست سوى أداة نجاح، التنوع أصبح قضية المؤسسات الحكومية والمؤسسات الأكاديمية والشركات، ليس إنصافاً وإنما لكونه في ذاته أداة نجاح. دعونا نتأمل قليلاً تاريخ المجتمع الأمريكي، تاريخ مليء بقصص التمييز، في يوم ما لم يكن للتنوع مكانم يكن يعدم كدعم للطلبة بةاباًة ، كل شيء كان ضد من لا يملك بشرة بيضاء، سنين طويلة والرجل الأبيض يرفض غيره، لم يكن هدف البيض حماية الكيان الأمريكي، لا يمكن لمجتمع أن يحمي نفسه بإقصاء بعضه، كانوا بفعلهم أبعد ما يكونوا عن حمايته، عاملوا غير الأبيض كغريب لا يمثلهم وخطر يهدد منافعهم، كان البيض ينظرون إلى الولايات المتحدة إلى بلد كاملٍ بلون واحد هو لون بشرتهم.  نفذ مع الوقت صبر الآخرين، ظهرت حركات حقوقية، بدأت تلك الحركات تنجح وبدأت القوانين المناهضة للتمييز تظهر، تغير الأمر حتى بالنسبة للبيض أنفسهم، أدركوا أن ما هم فيه ليس حلاً وأن الولايات المتحدة ليست أرضهم وحدهم، جاءت قوانين نظمت الأمر وأصبح للشعب ما يحتكم إليه، غلب صوت الحق والقانون صوت الرجل الأبيض. منذ بداية القرن الماضي سُنت في الولايات المتحدة قوانين وسياسات حمت الحقوق والاختلاف وجرمت التمييز، برز – على إثرها - التنوع كسمة اجتماعية صحية وأداة نفعية ربحية في مؤسساتها، تحولت المؤسسات من مجبرة على شمول الجميع إلى مؤمنة به مؤكدة عليه، هذا التحول لم يكن وعياً من الرجل الأبيض ولكنها النتائج التي فاجأته، الأثر الاقتصادي الكبير والاستقرار المؤسسي المبهر. خذ مثلاً سياسة التمييز الإيجابي Affirmative Action تجربة أمريكية كبيرة تستحق الوقوف عليها وقراءتها وتحليل آثار تطبيقها، منذ سنت عام 1965 كانت وما زالت مثار جدل كبير في الأوساط القانونية والأكاديمية والفكرية، اشغلت حتى كبرى قطاعات المال والأعمال، دعاوى قضائية ومطالبات بإلغائها وأصوات أخرى تنادي باستمرارها، جامعات كبرى – الحاضن الأبرز للسياسة - تعتمدها في سياسات القبول والتوظيف، معظم الشركات الكبرى تدعم استخدام الجامعات لها بسبب كفاءة مخرجاتها قياساُ بغيرها، ومع ذلك لا يزال الخلاف مستمراً، مبررات الخلاف حولها هي نفسها مبررات سنها: كبح التمييز وضمان حقوق الجميع وتحقيق التنوع. والسؤال هنا: هل كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى هذه السياسة وهل لا زالت بحاجتها؟ إجابة السؤال يساعدنا في التعرف على أبرز نتائجها ألا وهو التنوع، أعتقد أن المبدأ الوحيد من مبادئ السياسة الذي أبقى السياسة صامدة حتى يومنا في المؤسسات والجامعات الأمريكية هو التنوع، وهو أيضاً خلف بقاء شركات كبرى تدافع عن استمراره في المؤسسات الأكاديمية، بالنسبة لي لا أرى ما يبرر التزام جامعات عملاقة بتطبيقه سوى أن استمرار تطبيقه استمرار في تحقيق التنوع وتحقيق التنوع استمرار في تحقيق النجاح.