تجربتي في نيودلهي مع «القصة والتراث العربي».

بعد مسيرة امتدت لأكثر من ثماني سنوات في مجال الكتابة والتأليف، والعمل في قطاع النشر أثمرت عن إصداري 8 مؤلفات، وتقديمي 8 مؤلفين للساحة الأدبية، والمشاركة في العديد من الفعاليات والبرامج الأدبية والثقافية، حظيت بشرف تمثيل هيئة الأدب والنشر والترجمة في برنامجها الثقافي ضمن مشاركتها في معرض نيودلهي الدولي للكتاب 2025، الذي أقيم في ساحة معرض براغاتي بالعاصمة الهندية نيودلهي خلال الفترة من 1 إلى 9 فبراير وتضمنت مجموعة من الفعاليات الثقافية والندوات الحوارية التي أبرزت المشهد الثقافي السعودي وتقاطعاته مع نظيره الهندي. وقد جاءت مشاركتي عقب اختياري من قبل الهيئة في برنامجها «إيصال الأديب السعودي في المحافل العالمية والمحلية»، والذي يندرج ضمن استراتيجيتها المعتمدة من قبل مجلس إدارتها برئاسة صاحب السمو الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة والمتوائمة مع رؤية 2030 والإستراتيجية الوطنية للثقافة. وتمثلت مشاركتي في تقديم ندوتين باللغة العربية على المسرح الرئيس للمعرض أدارها المقدم أحمد الرديني وترجمهما فوريًا إلى اللغة الهندية الدكتور محمد عيسى وهو هندي الجنسية من سكان نيودلهي حاصل على دكتوراة في علوم التربية الإسلامية واللغة العربية. كانت الندوة الأولى يوم الخميس 6 فبراير بعنوان «القصة هي روح المحتوى»، التي استهللتها بالإجابة على سؤال مفهوم القصة؟ بأنها سرد أدبي فني لأحداث متسلسلة تضم شخصيات وزمانًا ومكانًا وحبكة وقد تكون واقعية أو خيالية في نص قصير أو طويل من أجل إيصال رسالة محددة، من ثم تناولت تأثيرها في تشكيل نظرة الإنسان للعالم، والدور المحوري الذي تلعبه في تشكيل الوعي الإنساني والتأثير على القيم والسلوكيات، وكيف يمكن أن تكون ملهمة وتحمل رسائل عميقة عن الحياة والبحث عن الذات، وقدرتها الفريدة في تعزيز الترابط الاجتماعي وبناء الهوية الثقافية، ونقل التجارب الإنسانية العميقة، والأشكال المختلفة لها من الأدبية إلى السمعية والبصرية والتفاعلية، والتقنيات السردية التي تجعل القصص أكثر جذبًا، مثل استخدام الارتجاع الفني أو الاستحضار أو ما اصطلح على تسميته بالفلاش باك، وتعدد وجهات النظر، والتشويق، والسرد غير الخطي. وكيف يمكن للقصة أن تترك بصمة دائمة، سواء في الأدب أو السينما أو الإعلام، والمسؤولية الأخلاقية التي تقع على عاتق صانعي القصص في تقديم محتوى يراعي القيم الإنسانية ويبتعد عن تعزيز الصور النمطية السلبية. وقد عرجت على تجربتي مع القصة وآثارها الإيجابية من خلال رواية «حصاد الظلام» التي سردت فيها حكايتي مع فقدان البصر وكيفية التكيف معه، وبينت كيف كان لهذه القصة أثرًا إيجابيًا ألهم الآخرين من ذوي الإعاقة البصرية وأسرهم والعاملين في المجال. أما الندوة الثانية فكانت يوم الجمعة 7 فبراير بعنوان «التراث العربي»، أوضحت من خلالها أن التراث العربي هو كنز ثقافي ضخم ومتنوّع، يشمل كلَّ ما خلّفه الأجداد من آثار مادية ومعنويّة عبر العصور في مختلف أرجاء الوطن العربي، وهو الهوية الجامعة التي تربطُ بينَ الأجيال، وأنه مصدر إلهام وإبداع للأجيال الحاضرة والمستقبلية. وأشرت إلى أنه تراث غني بالإنتاجات الفكرية والأدبية والعلمية في كافة علومه من الأدب والشعر إلى الفلسفة والعلوم، وكيف أسهمت الحضارة العربية الإسلامية في بناء المعرفة الإنسانية، بالإضافة إلى تقديم ملامح عامة عن التراث السعودي وعمق ارتباطه بالتراث العربي. كما تطرقت إلى الجهود الكبيرة التي تُبذل للقيام برصد المخطوطات وتدقيق نصوصها ومراجعة نماذجها، والعمل على تجميعها وتنظيمها وترتيبها وترميم التالف منها، وأخيرًا القيام بفهرستها وحفظها. واختتمت الندوة بالتشديد على أهمية ومسئولية الفرد والمجتمع في الحفاظ على التراث المحلي وأهمية الاستفادة من تقنية الذكاء الاصطناعي في الحفاظ عليه وتوثيقه اختصارًا للوقت شريطة ألا يُهمش ويُغفل دور العنصر البشري من أهل الاختصاص والخبرة في مجال التراث والإرث الإنساني. والواقع إن مشاركتي لم تخلُ من التحديات، التي كان من أبرزها التحدث أمام جمهور متعدد الأعراق والثقافات والأديان، حيث كان الحضور من الهندوس والمسيحيين والبوذيين والمسلمين وقليل من الجالية العربية المسلمة، الأمر الذي تطلّب مني انتقاء أسلوب سردي متزن يحافظ على غنى المحتوى دون المساس بحساسيات الاختلافات بين ثقافاتهم. كذلك تجربة إلقاء ندوة تُترجم فوريًا للمرة الأولى شكلت لي تحديًا آخر، إذ كان عليّ التوقف بعد كل فقرة لإتاحة الفرصة للمترجم، ما استدعى الحفاظ على تسلسل الأفكار وتركيز الانتباه لاستئناف حديثي بسلاسة من حيث توقفت. أما التحدي الأكبر، فكان الحديث عن التراث العربي، فهو موضوع لم يسبق لي أن ناقشته أو تحدثت عنه من قبل، رغم ميلي الشخصي وحبي له. ومع ذلك، كانت ثقة اللجنة المنظمة في قدرتي على تقديمه دافعًا قويًا لي، فبذلت جهدًا مكثفًا خلال الأيام التي سبقت مشاركتي في الاطلاع على أبرز المصادر المتاحة على شبكة المعلومات، ما مكّنني من جمع مادة متكاملة للندوة وتقديمها بشكل لاقى ولله الحمد إعجاب الجمهور، خاصة وأنني حرصت على إبراز عمق العلاقة التاريخية بين القارة الهندية والعالم العربي، من خلال الروابط الدينية والتجارية القديمة، والتبادل الثقافي الذي نشأ عنها. وما لفت انتباهي وأثار إعجابي هو الإقبال والحضور الكبير الذي شهدته الندوتان، والإشادة الواسعة بالمحتوى الثقافي المقدم، والتغطية الإعلامية لهما. كما كان لتواجدي في هذا المحفل الدولي بين كبرى دور النشر العالمية، وفي جناح مكتبة الملك فهد الوطنية، ومجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية فرصة عظيمة لإثرائي المعرفي وفتح آفاق جديدة لتطوير مسيرتي الأدبية وأنشطتي الثقافية المستقبلية محليًا ودوليًا. وفي هذا السياق أوجه شكري وتقديري إلى هيئة الأدب والنشر والترجمة على إتاحتها لي هذه الفرصة لتعزيز حضوري الثقافي على المستوى الدولي، وفتح آفاق جديدة لي لتعريف العالم بالثقافة والأدب السعودي، ودعمها المستمر للأدباء السعوديين من خلال رؤيتها الطموحة بتمكينهم من الوصول إلى منصات عالمية. الأمر الذي يعكس رؤية المملكة لتعزيز الريادة الثقافية إقليميًا وعالميًا، ورفع الوعي بالموروث الثقافي السعودي، إلى جانب تحقيق أهداف الهيئة لتعزيز التبادل الثقافي الدولي، وإبراز الحراك الأدبي السعودي عالميًا. ولا بد من التنويه إلى أنها كانت فرصة لي لإبراز دور الأشخاص ذوي الإعاقة في المشهد الثقافي والأدبي السعودي، بصفتي واحدًا من ذوي الإعاقة البصرية، للتأكيد على رؤية المملكة في تمكين جميع فئات المجتمع وتعزيز أدوارهم الثقافية. كذلك كان لوجودي في العاصمة الهندية في هذا التوقيت إحياءً لذكرى شخصية وإنسانية عزيزة على نفسي، ألهبت بها مشاعر الحضور حينما استهللت حديثي في ندوة «القصة روح المحتوى» بأن تواجدي في هذه المدينة في هذا الوقت أحيا لي ذكرى قبل 40 عامًا حينما كنت أعمل مضيفًا جويًا على متن طائرات الخطوط السعودية التي دشنت آنذاك أولى رحلاتها إلى نيودلهي، وجمعتني بزوجتي الأمريكية «جينا شوكلي» التي ترافقني في رحلتي هذه حيث كانت تعمل مضيفة على الخطوط أيضًا وتعارفنا في هذا البلد حينذاك، ومن ثم تزوجنا. ومرت السنوات إلى أن أصبت بفقدان البصر الذي أدى إلى إحالتي للتقاعد المبكر من عملي في الخطوط السعودية، ومن ثم انخراطي لاحقًا في مجال خدمات الإعاقة البصرية وإعادة التأهيل وصولًا إلى عالم الفكر والأدب لأكون أحد الأدباء السعوديين المشاركين في محفلكم هذا. وإن هذا الملخص الذي سردته عليكم هو مفهوم القصة من حيث إنه تضمن لأحداث متسلسلة وشخصيات تمثلت فيَّ وزوجتي والخطوط السعودية، وحبكة للقصة والزمان الذي تواجدت فيه في نيودلهي لأول مرة، والأماكن التي دارت فيها الأحداث. والرسالة هي أن فقدان البصر لا يعني توقف الحياة. وما أن وصلت إلى هنا حتى قاطعني الجمهور بالتصفيق تفاعلًا وإعجابًا بما قلت، ومن ثم توالى حديثي تباعًا حول القصة وصناعتها الإبداعية. إلى أن انتهت الندوة. ولكن تجربتي لم تنه هنا ولقصتها بقية ستسطرها مشاركاتي المستقبلية في برنامج «إيصال الأديب السعودي في المحافل العالمية والمحلية».