وفاء بوفاء .. قراءة في كتاب (حديث الأمس) للأستاذ عبد الفتاح أبو مدين (رحمه الله)..
عقليّةٌ منظّمة وذخيرةّ معرفيةٌ متقدّمة، وحافظة ثريّةٌ ملهمة.

مرَّت ذكرى وفاة الأديب المفكّر الإعلامي الإداري الناقد المفكّر الأستاذ عبد الفتاح بومدين في (الأول من يناير عام 2019 م) وكنت قد أزمعت أن أقدّم قراءة لإحدى كتبه وفاءً له ؛ وقد شغلتني عن ذلك شواغل انصرفَت فيها الأذهان إلى الهمّ اليوميّ الذي يساورنا جميعاً حول ما يدور في ذلك الجزء من الوطن الفلسطيني العربي المحاصر على شاطيء البحر الأبيض المتوسط من حرائق ومجازر ودمار وشلالات الدم ، وأذهلتنا عمّا ينبغي إزاء من يستحقّون أن نَفِي بحقِّهم غياباً كما وَفَوْا إلينا حضوراً ، وقد وجدت في كتابه (حديث الأمس) من تذكير بقيمة الوفاء ، ما جعلني أعكف على قراءته لأكتب عنه، وقد شدّتني عبارات كتبها الأديب المعروف راضي صدوق على الصفحة الخلفية للغلاف فأردت أن أستهل بها مقالتي هذه : “ الأمانة و الشجاعة و الشرف و الالتزام، الحديث عن رجل انتزع نعاله من وحول المادة اللزجة الدَبِقة وخوْض في عُباب الألق و العطر و الضّوْء، يحمل قلبه و قلمه و محبرته و قراطيسه على كفّه، كما يحمل ناشد الشهادة روحه على راحته مُقتحماً غَمَرات النار و الشوك و الأفاعي” يبدأ أبو مدين كتابه بقوله “ إن هذه الصفحات التي يضمُّها هذا الكتاب هي وفاء وإهداء من أوفياء أحبة” وقد ضمّ الكتاب العديد من المقالات و القصائد والدراسات و الشهادات و الكلمات في مناسبات متعدّدة ، فيها تكريم وإشادة بجهود الأديب الكبير من مختلف الشخصيات الأدبيّة و الفكريّة و المسؤولين من المملكة العربية السعودية و العالم العربي مما لا يتّسع لاستعراض كلماتهم المقام في هذه العجالة ؛ و لذلك آثرت أن أقف على بعض ما خطّه قلمه في مجال النقد الذي يقع في ساحة الوفاء في جانب منه ، ويعبر عن رؤيته النقديّة. ضمّ الكتاب مقالة موسومة ب(فؤاد الخطيب : شاعر النهضة العربية) وقد استهلّها بذكريات تتّصل بالمرحلة التاريخية التي عاصرها وبمدينة الطائف استذكر فيها بأسلوبٍ شعريٍّ وجدانيٍّ تلك الحقبة وما فيها من مباهج الحياة،ذلك المصيف الجميل والمحيط الطبيعي و الاجتماعي البسيط والأجواء الروحيّة الشفيفة ، وما أطلق عليه الكاتب صفة (الأنس العفيف) ومن ثم دلف إلى ما أحاط بظروف طباعة الديوان من اهتمام الشيخ محمد سرور الصّبان و الدكتور عثمان الصيني واصلاً الحديث عن الطائف بقصيدة الشاعر عن هذه المدينة ، ومطلعها : أيها الهاجع قد حان البكور وانطوى الليل بما تطوى الستور وعمد إلى التعقيب عليها مُنشِئاً نصّاً نثريّاً موازياً في لغة أدبيّة فاخرة بمعنى كونها بيانيّة مجازيّة ، و مُعقّباً بعباراتٍ يثني فيها على أسلوب الشاعر بما هو مأثور من عبارات تشير إلى سلاسة الألفاظ والمعاني و المفردات و ما اتسمت به من جمال ، مُستشهداً ببعض الأبيات ، ومُشيراً إلى ترابطها وانسيابها في وحدة يفهم منها اتّسامُها بالتماسك و الانسجام مُشبّها الشاعر بالعصفور في روض الطبيعة وبساطها الزمردي (كما وصف) متحدّثاً عن التراكيب و المعاني ، ناعتاً إياها بالقوّة متابعاً إنشاءه التوضيحيّ لنصّه النثريّ الموازي مُسجّلاً انطباعاته الإيجابيّة عن القصيدة ؛ منتقلاً بعد ذلك إلى الحديث عن الشاعر مُستشهدا بأقوال ابنه (رياض الخطيب) الذي أشار إلى عزوفه عن الشّهرة واهتمامه بالمعترك السياسي والأدبي وخدمته لقضايا أمته؛ ثم عمد بعد ذلك إلى التعريف بالشاعر على النحو المعهود في الترجمة للشعراء و الأدباء مُسهبا في الحديث عن علاقاته برموز تلك المرحلة من الأعلام ، ومناصبه التي تبوّأها في عهد الشريف الحسين بن علي وابنه الأمير عبدالله أمير شرق الأردن آنذاك وملك الأردن فيما بعد ، والمناصب التي شغلها سفيراً للمملكة العربية السعودية، وأشار إلى ثقافته ورؤيته النقديّة التي يعتبر فيها أن المعنى هو الأصل والأسلوب هو الثوب و الوشي ، ثم عرض لمقدمة الجزء الأول من الديوان الذي بدا واضحاً أنها أقرب إلى التأريخ الأدبي في ضوء الأحداث السياسيّة و الثقافيّة مشيراً إلى الحُذّاق من شعرائه ، وإلى ما فعله الإسبان في حريق غرناطة كما فعل هولاكو الذي أحرق مكتبات بغداد، ومضى متحدّثاً عن أسلوب الشاعر وتنوّع قصائده، وما طبعت به من الرثاء و الشجن والغرام والتقريظ وما ختم به الديوان تحت عنوان : من الصحراء إلى الشعراء، وقد أشار أبومدين إلى أن الخطيب عالج موضوعات قلّما تطرّق إليها الشعراء، مثل حظ ّالأديب و الدسيسة وصبر الكريم ، وتوقف عند بعض الصور التي رسمها خيال الشاعر مشبّهاً بها حال البشر بالشجر : وهل نظرت إلى الأشجار باسقة في الروض تسحب من أذيالها تيها كالقوم ظاهرها حال ، وباطنها حال ومن سفلها تحيا أعاليها وقد تتبع مراحل حياة الشاعر وما أسفرت عنه كل مرحلة، وتوقف عند قصائد قالها في مناسبات و مواضيع متعدّدة كالغزل و الوداع والتقريظ و الحكمة و اللغة العربية و الطبيعة وتهنئة العاهل الملك عبد العزيز (رحمه الله) ومدحه في مآثره الجليلة ومناسبة وصول الماء إلى جدة في الاحتفال بهذا الحدث، ويرى أنه قسّم شعره إلى ثلاثة أنماط في ثلاث مراحل : متغيّرات حياته في الأولى، وفي الحنين للماضي في الثانية وفي رثاء حال الأمة في الثالثة، في وطنيّة عاليّة و تبنٍّ لقضايا الأمة ، ووقف عند بعض القصائد مثل (الحنين إلى الحجاز) ذاكراً فضل الشيخ محمد سرور الصبان ، متحدِّثاً عن الحنين إلى الوطن و الصديق معقبا عليها ذاكراً نهجها الكلاسيكي و الوجداني ومتوقفاً عند قصيدته (إلى شوقي) مستشهداً بقوله : جلست على عرش البلاغة سيداً تبايعك الأمصار و اليمن شامله ونلت الغنى و الجاه و العلم و الحجى تبارك من أولاك ما أنت نائله وذكر قصيدته في ( الآلام و الأيتام) معقّباً على ذلك كلِّه بلغة بيانيّة مجازيّة رفيعة المستوى ، مُتحّدثاً عن اختزاله للصور الجميلة في ذاكرته ، مشيراً إلى ما اسماه (النوستالجيا) أي (الحنين ) مُلتمساً السعادة المُبَطّنة على حد تعبيره، ويكرّرالحديث عمّا يفيض به شعره من الصور الحية وعن مناسبة أسلوبه لكلّ موضوع يختاره مُستأنفاً الحديث عن نضالات الشاعر في المعترك السياسي و الأدبي مُنتهياً به إلى الإشارة لمكان وفاته في مدينة كابل ، ثم تحدّث عن اهتمام الشاعر باللغة ، و لخّص ماجاء عن ذلك في مقدمته حول هذا الموضوع نثراً وأشار إلى توصياته حول دعم اللغة العربية ، و في مرافعة طويلة حول اللغة قال: إني لأحبُّ أن ألفت الانتباه إلى ما يأتي من آراء أدبيّة ولُمَع تاريخيّة ، ثم تحدث عن عصر النهضة وعن الأمم الغربيّة التي لم تكن لتبلغ مكانتها المرموقة إلا بفضل اتخاذها لغتها جامعةً لشملها وعروةً وُثقى ؛ مُتتبّعاً ذلك في فرنسا و إيطاليا و إسبانيا و البرتغال و بريطانيا، و يُرجِع سبب تعثر أمّتنا إلى اتخاذنا الأمم الأوروبية المثل الأعلى و القدوة ، ويورد شهادة (مرجليوث) حول العربية التي يصفها بالعجيبة في انتشارها ورشاقة تعبيرها ودقّة تراكيبها ، ويشير إلى أنه أراد أن يقتبس بعض الأقوال تنويراً للأذهان و زيادةً في البيان ناسباً بعضها للدكتور منصور فهمي وإيفوز إيفانس وبول كلوديل و المستشرق وليم مارسي و الدكتور طه حسين و عبد الوهاب عزام و أحمد أمين ، وقد أثار موضوع اللغة العاميّة ،ووصف الترويج لها بأنه دسيسة على العروبة وتمزيق لشملها، مُنهياً حديثه بالدعوة إلى الاطّلاع على الآداب الشرقيّة و الغربيّة ليتم لهم التلقيح الذي لابد منه للتجديد الفكري عائدا بالذكر إلى ما بدأ به من حديثٍ حول ديوان الخطيب مشيراً إلى أنه نموذج لذلك ، مُختتماً بقوله : إن سُلَّ بين قديمكم و حديثكم سيفٌ فإن قتيله المستقبل. من الواضح أن عبد الفتاح أبو مدين في نقده للديوان كان يجمع بين الملاحظات الاجتماعيّة و البلاغيّة و اللغويّة و يَعتَدُّ بسيرة الشاعر و يمزج بين التأريخ و التوجيه والتعليق و يسترشد بمبادئه و اعتزازه بالعربية وتقديره لدور الشاعر، ويسجِّل انطباعاتِه وموقفَه ورؤيته ويرخي العنان لتداعيات الخواطر و بنات الأفكار. وفي مقالته الموسومة (الخطراوي وما اختار من الشعر الحديث ) سار على النهج نفسه ؛ فذكر جهود الخطراوي في ميدان التأليف في الأدب و التاريخ و الفقه ؛وخاصة في يتعلق بالمدينة المنورة، ولكنه اختار أن يركّز على جهوده في التأيخ للشعر والشعراء ؛ وخصوصا كتابه (شعراء من أرض عبقر) وقد أشار إلى أنه عزف عن نقد الكاتب الذي رأى أنه كان على صاحبه أن يعيد النّظر فيما قاله في أحاديثه الإذاعية ، ونشرها كما هي لأن الرجل (رحمه الله ) كان كثير المشاغل و الاهتمامات فلم يتمكّن من القيام بذلك ، فضلاً عن أنه ليس حيًاً ليردّ عليه ، ولهذا اكتفى بعرض مادته و التعريف بها، وهو ما لايندرج تحت مفهوم نقد النقد ، وإن كانت ملاحظاته التمهيديّة في صلب هذا اللون منه ، ولكنه كان يستطرد بين الحين والآخر ليستذكر بعض المواقف مثل إشارته إلى ثناء طه حسين على الشاعر حسن عبد الله القرشي حين زار المملكة عام 1955 ، وكان يومها رئيساً للجنة الثقافيّة في جامعة الدول العربية وكان برفقته أمين الخولي ، وذكّره ذلك بافتقاد أحمد شوقي للحجاز إبان الاحتفال به أميراً للشعراء. وبعد أن فرغ من عرضه لكتاب (شعراء من أرض عبقر) استوقفه ديوان الشاعر الخطراوي(غناء الجرح) فربط بين عنوان القصيدة التي سُمِّيَ باسمها الديوان وبين مطلع الأبيات التي يدعو فيها إلى الشوق و الحلم ،وقد انتهج في قراءته لقصائد الديوان السبيل ذاته الذي سبق أن ارتآه مع ديوان فؤاد الخطيب من حيث الشرح و التعليق والربط بين النص وسياقاته التاريخيّة و الاجتماعيّة و التحليل الموضوعي و ىالملاحظات اللُغَوِيّة و البلاغيّة والإيقاع وابتكار العبارات النصّية الموازية في لغة بيانيّة فاخرة ، وفي عبارات عامة مثل قوله “ هكذا بلغة بسيطة عميقة المعاني متسقة الكلمات نثر ذلك الغبار الذي طوقه ليسقط تلك الأقنعة ويعلن البداية” وأَتبع ذلك بسيرته و مؤلفاته على النحو المألوف في الترجمة . اللافت في هذا الكتاب ليس مجرد ما حفل به من شهادات تكشف عن دور الأستاذ عبد الفتاح بومدين (رحمه الله) صحفيّاً وإداريّاً وأديباً و ناقداً فحسب ؛ بل كلمته المُسهَبة التي قدّمها في حفل تكريمه الذي أُقيم في إثنينيّة الشيخ عبد المقصود خوجة (رحمه الله) التي تميط اللثام عن ملحميّة سيرته الحافلة بالمكابدة و العصاميّة وجرأته وتواضعه وثقته بنفسه التي جعلت مقولة النابغة الذبياني تمثّل شخصيّته المتميّزة : “نفسُ عصامٍ سوّدت عصاما وعلّمته الكَرّ و الإقداما”