
لفت أحد المؤرخين الجدد اليهود الأنظار باختياره عنوانا لمذكراته المهمة اسم “ مذكرات يهودي عربي”. أفي شلايم ، الذي بلغ الثمانين من العمر يعتبر نفسه عربيا، رغم أن أسرته قد غادرت العراق إلى فلسطين المحتلة عندما كان في الخامسة من العمر، وهناك عاش حوالى عشر سنين، ثم انتقل للدراسة ثم العمل في بريطانيا بشكل مستمر حتى الآن، باستثناء عامين قضاهما في التجنيد الإجباري ضمن أفراد جيش الدفاع الصهيوني، فلماذا لا زال يعتبر نفسه عربيا؟ أدرك يهود العراق أن انتقالهم إلى فلسطين كان هبوطا في موقعهم من السلم الطبقي، في دولة الصهاينة يُنظر إليهم على أنهم أدنى بكل المعايير من اليهود الاشكيناز ( يهود أوروبا)، ولم تنفصل عنهم الذاكرة الجمعية ليهود العراق الذين عاشوا في بلاد الرافدين كمواطنين عراقيين عبر ألفين وخمسمئة سنة، خلال تلك الفترة عاشوا مثل غيرهم، وأهَلهم بذلوا جهدهم ليكونوا نخبويين، لم يحدث أن تعرضوا للاضطهاد إلا في ظروف استثنائية قصيرة، وهي ظروف تعرض لها غيرهم من أقليات العراق وأحيانا عموم السكان. كما أن أغلبهم أجبروا على الهجرة، ولم تكن الهجرة خيارهم، بقي كثير منهم على صلة عاطفية ببلدهم العراق، يتحدثون لغته، ويرددون حكاياته، يستمعون موسيقاه وأغانيه، كذلك نقل أدباؤهم العديدون ذكرياتهم العراقية عبر التاريخ إلى إنتاجهم الروائي والشعري. هجر كثيرون منهم موطنهم الجديد إلى أوروبا وأمريكا، تاريخ يهود العراق يعلمنا أنه كان منهم وزراء ومصرفيون، ومؤسسو بنوك، ومطورون زراعيون ، اشتهر منهم عدد من الموسيقيين والمطربين، منهم سليمة مراد زوجة ناظم الغزالي، ومنهم الأخوان محمود وصالح الكويتي، وكثير غيرهم. كتاب تاريخ يهود العراق، كتاب ضخم حوي معظم ما كُتب عن تاريخ يهود العراق. يعود تواجد اليهود في العراق إلى السبي الآشوري الأول عام ٧٢١ ق.م ثم السبي الآشوري الثاني ثم السبي البابلي الذي حدث على يد الملك نبوخذ نصر. فعندما سيطر الفرس على العراق أصدر ملكهم كورش مرسوما يسمح لليهود بالاختيار بين البقاء في بابل أو العودة إلى فلسطين، فضل أغلبهم البقاء. استقبل يهود العراق المسلمين بشكل حسن، وقد عوملوا معاملة عادلة في معظم السنوات، وبرز منهم كُتاب وأطباء، وأصبح رأسهم (رأس الجالوت) رأسا لليهود في العالم، وقد تعرضوا في فترات قليلة للاضطهاد كما في عصر المتوكل، وعانوا خلال مرحلة الحروب الصليبية وخلال الحكم المغولي مثلما عانى المسلمون. وكان العصر العثماني من أفضل عصور اليهود في العراق. تأسست في بغداد مدرسة الاليانس التي أقامها يهود فرنسا عام ١٨٦٤م، ولذا أصبح اليهود الذين درسوا فيها أرفع تأهيلا وخاصة في مجال اللغات، مما أتاح لهم التجارة عبر العالم، وأصبحوا وكلاء شركة الهند الشرقية التي كانت وجه المستعمر البريطاني في الهند، وانتقل بعض أثرياء الطائفة إلى الهند وبريطانيا، وأصبح منهم وزراء في بريطانيا. وتملكوا مصانع في سنغافورة والصين والهند وإيران، وكان أول رئيس لسنغافورة من أبناء يهود بغداد. في العهد الملكي صار لليهود نواب في كل مجالس البرلمان، يأتون بالانتخاب، وكان لهم أعضاء في كل الأحزاب، وفى غرفة تجارة بغداد شكلوا دائما خمسين في المائة من الأعضاء على الأقل. وأصبحوا يشكلون أكثر من نصف سكان بغداد. ما الذي حصل وأدى في النهاية إلى هجرة اليهود؟ يقول المؤرخ أفي شلايم إن اليهود كانوا ضحايا النازية، وأن الفلسطينيين أصبحوا ضحايا الضحايا أي ضحايا الصهيونية، ولكن يهود العراق كانوا من ضحايا الضحايا أيضا. وقد وصلت تفاصيل المشروع الانجليزي باقتطاع فلسطين وتمكين اليهود منها إلى أسماع أهل العراق فأثار كراهيةً للبريطانيين وتحسسا من اليهود. عند حدوث الحرب العالمية الثانية انقسم السياسيون العراقيون إلى قسمين، أولهما فضل التحالف مع بريطانيا، وثانيهما ارتأى أن يستعين بهتلر والنازيين ضد بريطانيا ليتحقق للعراق الاستقلال، الفريق الثاني كان برئاسة رشيد عالي الكيلاني، وقد كسب المنافسة وأيده أربعةٌ من قيادات الجيش، وهؤلاء استولوا على بغداد فخرج منها الوصي على العرش. كانت العراق من يمد جيوش الحلفاء بالنفط عن طريق الأنابيب التي تحمل النفط من شمال العراق إلى ميناء حيفا الفلسطيني، ثم إلى أوروبا. ولذا فإن بريطانيا أرسلت قواتٍ من الهند عبر ميناء البصرة، كما جاءت قوات بريطانية أخرى من الأردن، وضمنها مجموعات من الجنود الصهاينة الذين يحاربون مع بريطانيا والذين أصبحوا فيما بعد نواة الجيش الصهيوني. انتشرت دعايات بأن الوصي على العرش الموالي لبريطانيا قد اجتمع مع كبار الموظفين اليهود في البصرة تحت إشراف بريطاني، وشائعة أخرى تقول إن يهود البصرة قد استقبلوا الجنود البريطانيين بالورود، ولم تكن هذه الأخبار صحيحة مطلقا، ولكنه أمر أذاعته جهات بريطانية لإثارة حرب عرقية بين العرب واليهود في العراق مما يعطي القوات البريطانية ذريعة للتدخل. حرب الثلاثين يوما هذه انتهت بوصول القوات البريطانية إلى بُعد خمسة أكيال غرب بغداد وثلاثة عشر كيلا جنوبها، وأصدر السفير البريطاني كورنواليس أمرا بتوقف القوات الإنجليزية، وأجرى هدنة مع الجيش العراقي المسيطر على بغداد يعود بموجبها الوصي على العرش، قال السفير إنه لا يريد أن يُظهر أن الوصي قد عاد تحت الحراب البريطانية، هرب السياسيون إلى ايران، ومنهم رشيد عالي الكيلاني الذي توجه إلى ألمانيا ثم لجأ إلى الملك عبدالعزيز فآواه ورفض تسليمه إلى بريطانيا. خلال الهدنة بقي الجيش العراقي شرق دجلة. وتصادف وصول الوصي على العرش مع خروج جماهير يهودية تحتفل بأحد أعياد اليهود، مما استفز الجيش الذي كان يشعر بالهزيمة، فقام الجيش بمهاجمة أحياء اليهود ثم دخل الرعاع للسلب والنهب، ولذا سميت الأحداث الفرهود. قُتل ١٧٩ يهوديا وجًرح مئات، وسُلبت ممتلكات بملايين الجنيهات، لم تصدر الأوامر بقمع الشغب إلا في مساء اليوم التالي، التأخر في إصدار القرار في الظاهر كان رغبة من الحكام في عدم استفزاز القوات العراقية المعادية للبريطانيين، فهم اليهود أن عدم استخدام البريطانيين لقواتهم المسلحة لحمايتهم كان رغبة في أن يتحول اليهود إلى أكباش فداء للإذلال الوطني الذين كان البريطانيون أنفسهم قد الحقوه بالجيش العراقي، أراد كورناليوس أن يعطى الجماهير الغاضبة فرصة للتنفيس. كثير من المسلمين في المناطق السكنية المختلطة بذلوا قصارى جهدهم لحماية جيرانهم اليهود، وقفوا لحماية بيوت اليهود واستضافوا آخرين داخل بيوتهم لحمايتهم. حكمت المحكمة بالإعدام على ثمانية من المتورطين، وأما الطائفة اليهودية فإن مجلس قيادتها وغالبية أفرادها وجدوا أن ما حدث كان انحرافا عارضا، وأن إعادة الاندماج هو الحل، بينما أعطى ما حصل مبررا للمنظمات الصهيونية التي تعمل بالسر في العراق لتقنع بعض اليهود بفكرة أرض الميعاد. حتى عام ١٩٥٠ لم يهاجر إلا حوالي سبعة آلاف من يهود العراق لعمق جذورهم، و بقوا على رفضهم للصهيونية، مجلس الطائفة أرسل رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة يرفض فيه قرار التقسيم في فلسطين (١٩٤٧م)، و كانت قيادة الطائفة تتوقع أن ينعكس المشروع الصهيوني سلبا على الطائفة. ما الذي حصل حتى تتطور الأمور إلى الأسوأ؟ يقول أفي شلايم إن ما حصل في حرب ١٩٤٨ كان إذلالا قوميا للجيش العراقي، وكي يصرف السياسيون العراقيون الانتباه عن مسؤوليتهم المتعلقة بأداء الجيش، بحث قادته عن كبش فداء، وجدوا في اليهود المقيمين بينهم هدفا مناسبا، استفزت الحكومة الهستيريا الشعبية والشك ضد اليهود، معلنةً أن اليهود دخلاء وخونة وطابور خامس خطير. وحتى نعرف أداء الجيش العراقي في فلسطين نعود إلى كتاب ٱفى شلايم ويوجين روغان (الحرب من أجل فلسطين - مكتبة العبيكان السعودية) . ملخص ما كُتب: “ أن القوات العراقية تمركزت في مثلث طولكرم- نابلس- جنين. تمكّنت من صدِّ هجوم اليهود على جنين، ولكنها لم تتحرك لتنفيذ باقي مهامها، المهمة المسندة للقوات العراقية كانت تقتضي التقدم إلى حيفا لعزل القوات الصهيونية في الجليل عن باقي قواتها في الساحل، ولكنها لم تفعل، والسبب أنَّ حيفا حسب قرارات التقسيم تقع في المنطقة اليهودية. تستغرب الوثائق الإسرائيلية عدم تقدم القوات العراقية على خط طولكرم - ناتانيا، إذ أنَّ ذلك كان سيُقسِّم الأراضي المخصصة للدولة اليهودية إلى جزئين منفصلين، وهذه كانت الخاصرة الضعيفة في الأراضي التي تركها قرار التقسيم للدولة اليهودية، ولكن الجيش العراقي التزم مكانه!! هذا يوضح أنَّ المحور الهاشمي (العراق- الأردن) ظلَّ ملتزماً بالأوامر البريطانية التي تقضى بألا تهاجم القوات العربية القوات اليهودية خارج المنطقة العربية التي حددها قرار التقسيم. وبانتهاء الحرب فاوض الأردن اليهود على أن يأخذ المناطق التي ستنسحب منها القوات العراقية، مقابل أن يتنازل لها عن أربعمائة كم مربع من حصة العرب في التقسيم”. بالتأكيد لم تكن القيادة في العراق راغبة في انكشاف هذه المسائل أمام الشعب. صدر في يوليو ١٩٤٨ قانون تجريم اعتناق الصهيونية ويعاقب عليها بالموت أو السجن سبع سنوات على الأقل، وبدأ طرد اليهود من الوظائف الحكومية بحجة منعهم من ممارسة التخريب والخيانة، وجُرد اليهود من رخص الاستيراد والتصدير، ووضعت قيود على المصرفيين اليهود في الإتجار بالعملة الأجنبية. ثم صدر حكم بإعدام المليونير شفيق عدس، وهو أغنى يهودي في العراق، رغم صلاته الوثيقة بالقصر وذلك من خلال محاكمة لم تتوفر لها شروط العدالة. بدأت الهجرة اليهودية غير الشرعية عن طريق إيران، وكان معظم المهاجرين ممن رعتهم المنظمات الصهيونية السرية. شلومو هيليل، يهودي عراقي هاجر طفلا إلى فلسطين المحتلة، وأصبح فيما بعد رئيسا للكنيست ووزيرا للشرطة، ولكنه كان آنذاك مسؤولا عن النشاط الصهيوني السري في العراق، وأدار جزءا من الهجرة السرية عبر إيران، كما رتب رحلتي طيران حملت يهودا عراقيين من مطار بغداد بشكل بهلواني إلى الدولة الصهيونية، استطاع هيليل أن يقدم نفسه إلى توفيق السويدي رئيس وزراء العراق على أنه ممثل لشركة طيران الشرق الأدنى الأمريكية، وعرض أربعة عشر جنيها استرلينياً على الحكومة العراقية مقابل كل يهودي تنقله إلى خارج العراق. توفيق السويدي كان صديقا لرئيس الطائفة اليهودية في العراق آنذاك حسقيل شيمطوف ، استدعى توفيق رئيس الطائفة اليهودية، ليكون طرفا، وافق شيمطوف بلا تحفظ، فقد اعتقد أن عدد المهاجرين لن يزيد على سبعة آلاف، سيكون أغلبهم من الشيوعيين، وسيتحرر باقي المجتمع اليهودي من الضغوطات عليه، وستبقى الأغلبية في العراق بلدهم الذي يتمسكون به. صدر قانون بأن من يرغب في الرحيل عليه أن يوقع على تخليه عن الجنسية العراقية. وطالب عزرا مناحيم دانيال عضو مجلس الأعيان العراقي بأن يكون هناك بالمقابل تطمينات لليهود الذين لا يرغبون في المغادرة. استجابة اليهود بقيت ضعيفة جدا. وهنا تمت تفجيرات في أماكن تخص اليهود في العراق. المؤرخ آفي شلايم توصل إلى أن أربعة منها كانت بتدبير من الموساد والخامسة ارتكبها أحد أعضاء حزب الاستقلال المعادي لليهود. صدر بعدها قرار من حكومة نوري السعيد بتجميد أملاك كل من تخلى عن جنسيته من يهود العراق سواء هاجر أم لم يهاجر، نُفذ القرار فورا و بلا رأفة، فقد سبعون ألفا تقدموا للرحيل ولم يغادروا بعد أن فقدوا كل ما يملكون، وكان هذا إنذارا لباقي اليهود الذي خشوا أن تنتهى فترة السنة التي سُمح خلالها بالهجرة . قرروا المغادرة، هكذا وصل عدد من هاجروا إلى ١٢٠ ألف يهودي. لم يرحل يهود العراق لأنهم كانوا مضطهدين عبر التاريخ بسبب رفض المجتمع لهم كما روج الصهاينة، ولكنهم رحلوا مجبرين بسبب المشروع الصهيون الذي رفضوا أن يكونوا جزءا منه.