توليفة مجتمع!

 فيما لو طُلِبَ مني اقتراح مجتمع ما ليقوم بدوره في الحياة، فلن أسرع إلى حشده بجمع من الأخيار والعقلاء والأسوياء وذوي الهيئات؛ فهذا مجتمع خال من تجربة التاريخ.  لابد أن أختاره من مجموعة مختلفة من الأخيار والأشرار، والاجتماعيين والانطوائيين، والعقلاء والمجانين، والظرفاء والثقلاء، والكرماء والبخلاء، ليكون مجتمعا منتجا؛ فالبخيل مثلا على عقمه وشحوبه يصقل وجه الكريم من حيث لا يشعر، وثقيل الدم وإن كان يكدّر الجلسات ويخنقها بظلاله إلا أنه حين يُخلي المكان من ظله الثقيل يعيد إليه الحياة ويجدد نشاطه ويمنحه بغيابه أريحية وراحة من نشط من عقال. وهكذا تبدو هذه التوليفة من الأضداد صانعة للحياة، فالعقلاء وذوو السمت والوقار قد يكون ضررهم أكثر من نفعهم حين يهيمنون على المجتمع ويصنعون له سعاله الملكي الفخم، وقل مثل ذلك في غلبة الطرف الثاني حين يكون المجتمع كله مجموعة من البخلاء والثقلاء الذين يحبسون الأنفاس ويسدّون الأفق ولا يصنعون البهجة فيمن حولهم. وحدهم الحسّاد سأمنحهم حق الإقامة المشروطة بأن يسيروا معصوبي الأعين، حتى لا تلفتهم نعمة فيقوّضون بنيانا أو يفسدون إنجازا، ومع ذلك فوجودهم على خطورته قد يمنح المجتمع حصانة من الاتكال والإفراط في الثقة بدورات تطوير الذات. وفيما لو أتيح لي استثناء أن أستبعد صنفا من هؤلاء لاستبعدت البخلاء فهم مجمع الصفات الذميمة ومعدن الأخلاق اللئيمة، مع اعترافي أن وجودهم في المجتمع ضرورة رأسمالية لحبس الصنبور وإيقاف السيولة وإعادة البريق من جديد للون الدنانير وصناعة الابتسامة الشاحبة، فربما ساعدوا - وقلّما يساعدون ويسعدون - على اكتشاف جاحظ جديد يصنع منهم مادة ثرية لبلاغة النادرة!